( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ . قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ) يس : 13 – 19 

يذكر الحق سبحانه قصة و حالة غريبة في غابر الزمان ،  حين أرسل سبحانه رسولين من أنبيائه – عليهما السلام – لأهل قرية كافرة ، فواجهوا الرسالة بالتكذيب والتعنت والعتو ، فعزز الله الرسولين بثالث لتقوية موقفهما وشوكتهما في مواجهة عناد العصاة ، لكن موقف أهل القرية لم يتزحزح عن الجحود والفسق ، و زعموا أن لا مزية لهؤلاء الرسل عليهم ، موجبة لاختصاصهم بالنبوة والدعوة ، فهم لا يعدون أن يكونوا بشرا .!

ضاقت بأهل القرية الكفرة الحيل وأعيتهم العلل ، فادعوا تشاؤمهم بأنبياء الله المرسلين – عليهم السلام – جريا على عادة الجهلة والسفهاء والمفلسين من كل حجة وبرهان ، الخارجين عن كل منطق و عقل ، فنفروا من دعوة الله وأداروا ظهورهم لها ، بل وهددوا أنبياء الله بالقتل والعذاب الأليم !

التطير أو التشاؤم داخلي ولا حقيقة له، مصدره سوء العقيدة وقبح الأعمال والتوجه

لكن رسل الله المكرمين – وكعادة رسل الله – ردوا بكل حكمة و تعقل قائلين : إن سبب شؤمكم معكم ومنكم لا من قبلنا ( داخلي لا خارجي ) – هكذا هو التطير أو التشاؤم داخلي ولا حقيقة له  – ، فمصدره سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم وتوجهكم ، هذا ردهم على شبهة التشاؤم ، أما موقفهم من التهديد والوعيد الذي وجه إليهم فقد كان بقولهم ( بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ) والمعنى : أنكم قوم عادتكم الإسراف في الظلم والعدوان والبغي والجهالة ، ولذلك تتوعدون مخالفكم وتهددون كريمكم .وذلك ذكاء منهم وحكمة عميقة في الرد ، حيث اعرضوا عن الرد المباشر ، واكتفوا بذكر علة التهديد والدافع من ورائه ، فهو بمثابة قاعدة منطبقة عبر الزمان والمكان .

والملفت في القصة إرسال اثنين من الرسل لأهل قرية واحدة ! فما العبرة في ذلك وما الحكمة ؟ نعم قد يقال: إن أهل القرية كثرة كثيرة ، وإنهم أهل عتو وعناد مغالين فيه ، يستحقون  أكثر من نبي .

لكن لِمَ لم يرسل ربنا سبحانه وتعالى رسولا واحدا يقوم مقام الاثنين كما هو شائع في كثير من الأمم واٌلأقوام – كمحمد ونوح وغيرهم عليهم السلام – ؟! ، ثم إن يونس عليه السلام أرسله الله وحده إلى قرية كثيرة العدد عريقة في الكفر و العصيان ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) الصافات : 147 . فاكتفى ربنا برسول واحد ولم يعضده بآخر ؟!.

ألا يمكن أن يقال إن الزيادة في العدد زيادة في القدرة والطاقة والإمكانات والجهود ، وإن إضافة الكمية يترتب عليها إضافة الكيفية و النوعية ، فالرسل – عليهم السلام – مهما تشابهوا في الصفات العامة ، هم مختلفون في تفاصيل السمات الشخصية والنعوت التي تقتضي قيمة مضافة في الدعوة للرسالة ، وتمكن في الموقف ورسوخ فيه وثبات ، وشراكة في الرؤية والجهود والعطاء !!. ربما هذه حكمة يمكن فهمها من أصل فكرة تعدد الرسل .

لكن السؤال الآخر وربما الأهم : لم أيد الله الرسولين بثالث ، و إذا كان الرسولان بحاجة للتعزيز بسبب كفر القوم وطغيانهم وتكذيبهم ، فلم لم يرسل علام الغيوب والعليم بما سيكون عليه الحال ، الثلاثة مرة واحدة بدون إرجاء الثالث عنهم  ؟!

الزيادة في العدد زيادة في القدرة والطاقة والإمكانات والجهود ، وإن إضافة الكمية يترتب عليها إضافة الكيفية و النوعية

ألا يفهم من هذا – والله أعلم بأسرار كتابه – بعدا عميقا في التخطيط عموما والمؤسسي خصوصا ، إذ إن في مثل هذا الإرجاء – من منطق بشري صرف – تعليما للخلق وتوفير الطاقات والجهود من أن تهدر بلا داعي أو موجب ، وعدم استعمالها إلا للحاجة والضرورة ، وتوجيه الموارد لتحقيق الأهداف بأقل تكلفة ممكنة ، ودراسة الواقع وتوقع المستجدات وأسوأ الاحتمالات واستشراف الآتي بكل ما فيه ! فالرسولان لما بعثا إلى هؤلاء القوم ، روعيت اعتبارات المكان و الطبيعة البشرية وعددهم .. حتى إذا استدعى الأمر التعزيز  – العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب – كان ذلك في الوقت المطلوب للسيطرة على الموقف وتدارك الدعوة وغاياتها ونتائجها المرجوة !

وإذا كان التخطيط هو ” تحديدُ الأهدافِ المرادُ تحقيقُها، ورَسمُ خط السير إليها، وتحديدُ وسائل ذلك السير، مع وضوح التصور لما يُمكن أنْ يَحدُث أثناء العمل مِن المستجدات والتطورات، ووَضع ما يُناسب ذلك مِن طرُق التعامل مِمَّا باتَ يُسمَّى بـ”الخطة والخطة البديلة”، شريطة أنْ يستهدف ذلك أكبر قدر ممكن مِن المكاسبِ وأقلّ قدر ممكن مِن الخسائر” .محمد فوزي العشري

إذا عرفنا هذا ، سهل فهم مثل هذا اللفتات القرآنية ، وإعادة قراءة النص الحكيم بطريقة غير مألوفة  والله أعلم .