“لقد وجدت في التاريخ مدنا بلا حصون، وأخرى بلا قصور، وغيرها بلا مدارس، لكني لم أجد أبدا مدنا بلا معابد”

هكذا عبر المؤرخ الإغريقي الأشهر “بلوتارك” مؤكدا أن فكرة إنكار وجود الخالق تعد استثناء في التاريخ البشري..

وعلى مستوى الواقع العربي لا أحد يستطيع التحدث بأرقام محددة عن أعداد الملحدين العرب، وبالتالي لا يمكن اعتبارها ظاهرة، لكنها تبقى في النهاية احد الشواغل التي اتجهت إليها ادوات الباحثين في محاولة لفهمها وتحليل تجلياتها على مستويات عديدة.

وبقدر ما حاولت بعض الجهات إصدار ما يشبه الإحصائيات عن أعداد هؤلاء في الوطن العربي إلا أن تلك الإحصاءات أثارت الكثير من اللغط بسبب عدم دقتها حسب كثير من المراقبين.

وفي هذا التقرير سنحاول رصد تلك التفاعلات حول أعداد الملحدين العرب وتجلياتها وما يمكن أن تتمخض عنه من نتائج على المستوى الاجتماعي والديني والسياسي.

لغط الإحصاءات

في يناير من العام 2014م أصدرت دار الإفتاء المصرية تقريرا حول أعداد الملحدين في الوطن العربي، حيث قالت إن عددهم في مصر هو 866 ملحدا، وفي المغرب 325، وفي تونس 320، وفي العراق 242، و في السعودية 178، بينما كان عددهم 170 في الأردن، 70 في السودان، 56 في سوريا، 34 في ليبيا، و32 في اليمن.. وهو ما يساوي 2293 ملحدا بين سكان الوطن العربي البالغ عددهم وقتها قرابة 400 مليون نسمة.

لا أحد يستطيع التحدث بأرقام محددة عن أعداد الملحدين العرب، وبالتالي لا يمكن اعتبارها ظاهرة

وفي حين أثار تقرير دار الإفتاء كثيرا من الاستهجان لدى البعض بوصفه يقدم حصرا بدون آليات دقيقة، فإن آخرين تصوروا أن التقرير تعامل مع نشطاء الملحدين الذين جاهروا بإلحادهم، بعيدا عن قواعد جماهيرية كبيرة تتفاعل مع رؤاهم على صفحات التواصل الاجتماعي.

وعودة إلى ما قبل تاريخ إصدار دار الإفتاء المصرية لهذا التقرير وتحديدا في عام 2012، فإن مؤسسة “وين جالوب” قد أجرت استطلاعا للرأي أثبتت من خلاله أن خمسة بالمائة من المواطنين السعوديين – أي أكثر من مليون شخص وقتها بحسب تعدادهم – يعتبرون أنفسهم “ملحدين مقتنعين”، وهي نفس النسبة في الولايات المتحدة بالمناسبة، بينما يعتبر 19 بالمائة من السعوديين – حوالي ستة ملايين نسمة – أنفسهم “غير متدينيين”

ليست ظاهرة

وبعيدا عن ما أثاره هذا الاستطلاع كذلك من لغط على مستوى التشكيك في نتائجه، فإن هذه الأعداد لا يمكن اعتبارها ظاهرة كما يؤكد د. كريم عبد الرحمن أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة، وإنما يؤشر فقط على وجود حالة من الخلل العقدي لدى قطاعات من الشباب نتيجة لاخطاء بعض الخطابات الدينية إن على مستوى سطحيتها أو على مستوى تشددها.. حسب تعبيره.

 اعداد الملحدين العرب لا تشي بكونها ظاهرة وإنما تؤشر على وجود خلل عقدي ينبغي بذل جهد في علاجه

لكن أستاذ علم الاجتماع يعود فيقول تعليقا على استطلاع “جالوب”: يمكنني تصور ذلك في المملكة العربية السعودية واكثر، حيث بيئات التشدد يمكن أن تفرز ردة فعل عكسية لدى شباب منفتح على تصورات ورؤى مضادة لبيئته، وهو ما يثبت أن الخطاب الديني المتشدد على المستويات الاجتماعية والسياسية ينتج سيرا في الاتجاه الآخر بصورة أعنف من الخطابات السطحية.

ويدعو عبد الرحمن إلى ضرورة إنتاج خطاب ديني قادر على احتواء أجيال لم تعد تؤمن إلا بالعلم ومنهجيته كأداة للإقناع بعيدا عن العواطف، مؤكدا أن أي محاولة لسوق هذه الأجيال من قبل قيادات دينية لا تحسن لغة العصر فإنها ستؤدي لنتائج عكسية تماما.

تسييس الخطاب الديني

وفي إطار آخر ترى الدكتورة نهاد العشب أستاذة علم الاجتماع بالجامعة الامريكية بالقاهرة أن أحد أهم روافد الإلحاد هو تسييس الخطاب الديني على مستوياته المختلفة..

وتوضح أن ظهور جماعات الإسلام السياسي ليس هو المقصود الوحيد من هذا التسييس، لكن تماهي بعض المحسوبين على العلم الديني مع الانظمة الحاكمة هو أشد ضراوة في تأثيره من تلك الجماعات.. حسب تعبيرها!

وتؤكد العشب أن صناعة خطاب ديني يخدم أهداف الانظمة ويقدم تفسيرات وتعليلات دينية لأفعالها هو أحد أسباب احتقار كثير من الملحدين للأديان، خاصة حينما تعلو تبرة تلك الصناعة بصورة فجة، كذاك الذي رفع بعض السياسيين إلى مرتبة الرسالة، والآخر الذي قال إن جبريل صلى خلف أحدهم في رؤيا رآها!!

وتشير أستاذة علم الاجتماع إلى وجوب ان ينشغل فريق من علماء الدين سواء الإسلامي أو المسيحي في عالمنا العربي بتقديم خطاب وسط بين هذين النوعين، خطاب يقوم على الحقائق المجردة بعيدا عن السياسة وبعيدا عن الموروثات التي تم إنتاجها في سياقات سياسية واجتماعية مختلفة.

 صناعة خطاب ديني يخدم الأنظمة ويقدم تعليلات لأفعالها هو أحد أسباب احتقار كثير من الملحدين للأديان

وعن تجليات تفشي الإلحاد على المستوى الاجتماعي قالت العشب إنها من اخطر ما يمكن حيث تفتح الباب على مصرعيه لصراعات فكرية غير اعتيادية، ربما لا تكون صحية في إطارها العام، حيث يعيش الطرفان في عالم منغلق على تقاليد دينية تجرم تلك الأفعال وربما تصل بها إلى صياغات قانونية اكثر إلزاما بعكس الحال في الغرب.

وأوضحت أستاذة علم الاجتماع أن شروخا كثيرة تحدث في جدار الأسر العربية بسبب وجود بعض أفرادها ضمن هؤلاء، وبالتالي فإن دراسات ومراكز يجب أن ينصب جهدها لا على تصحيح الاعتقاد فتلك مسئولية المؤسسات الدينية وعلمائها، بل على إيجاد مخارج لصيغ أكثر انفتاحا للتعامل بين هؤلاء وبين المجتمع بحسبانهم على الأقل حالة مرضية يرجى برؤها ولو بعد حين!

المؤسسات الدينية

“خطاب المؤسسات الدينية في عالمنا العربي والإسلامي ربما يكون أحد أسباب تفشي هذا الوباء الإلحادي بشكل أو بآخر”

هكذا عبر الدكتور عبد المنعم مسعود أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر عن رؤيته مؤكدا أن نظرة واحدة على نتاج خطاب المؤسسة الدينية في مصر مثلا يمكن أن يكون كاشفا لمستوى الضحالة التي يلمسها الشباب في تلك المؤسسات، وبالتالي تحدث حالة من الكفر البواح بها بحسبانها رمزية الدين في أعينهم!!

ودلل مسعود قائلا: لن نتحدث بعيدا عن الإلحاد كموضوع نحاول بحث أسبابه لتجنبها، ولذا فسأحدثك عن تقرير دار الإفتاء المصرية الذي فوق أنه اعطى أرقاما غير دقيقة كانت مثار سخرية وتندر كثير من الشباب، فإنه أيضا حاول أن يجعل من هذه القضية التي يجب أن تؤرقه مطية لخدمة أهداف سياسية في صراع النظام مع الإسلاميين.

ماذا تنتظر من شباب ثائر ضد الاستبداد يجد من يصفه بالخوارج ويفتي بقتله غير ردة عن هذا الدين الذي يمثله هذا المفتي

ويلفت أستاذ العقيدة والفلسفة إلى ما قال إنه دليل على صحة كلامه حيث يقول: حينما تتحدث دار الإفتاء المصرية عن أسباب انتشار الإلحاد فتقول: “الممارسات العنيفة للإرهابيين والتشدد لدى بعض الجماعات الإسلامية سبب انتشار الإلحاد في بعض البلدان العربية”، فهي بالضرورة تحاول الصيد في الماء العكر عن طريق غمز الإسلاميين عموما دون تحديد من هو صاحب الفكر المتشدد من غيره؟!!!

ويضيف: وتستمر دار الإفتاء في التاكيد على المعنى ذاته في ثنايا تقريرها حينما تقول: كما أن تغلغل “الإسلام السياسي” في الحياة الخاصة والعامة يمكن أن يكون سببا آخر لردة الفعل ضد الدين…”.

ويعلق مسعود قائلا: بالطبع لن أتحدث هنا عن شباب ثائر ضد ظلم واستبداد ثم يجد من يحدثه باسم الدين عن حرمة التظاهر وأنه من الخوارج لو فعل ذلك، ويصل الامر مداه حينما يجد هذا الرمز الديني يأمر بقتل المخالف فقط لأنه مخالف دون مراعاة لحقوق دين أو وطن، فماذا تنتظر من هؤلاء غير ردة على هذا الدين الذي يعتبرون هؤلاء ممثلين له؟!!