قد يقال لا إشكالية في القضايا الفقهية العملية “التدين“، فإنه قد يرد الخلاف فيها دون حرج! إنما الإشكالية في أمور العقيدة “الدين”، وقد يقال أيضا معظم النماذج التي تم سردها في الجزء الاول من هذا المقال إنما تدخل في مجال الفقهيات، أو في التدين لا في الدين. يلاحظ أن ما يُظنّ أن الخلاف فيه عقدي لا فقهي؛ يرجع معظمه إلى محاولة إيجاد أجوبة لقضايا جديدة حدثت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر أن شيئا منه أُثير في زمنه عليه السلام فنزل فيه وحي أو قال فيه عليه السلام حديثا!

فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل في معنى “على العرش” أو “ينزل ربنا” أو “مخير أو مسير” “الأفعال بين نسبتها إلى الله وإلى المخلوق -العدالة-” و”الابتلاء والحرية! فهي قضايا فكرية جديدة لم يحسم الوحي فيها قطعا في زمنه عليه السلام. ما تم هو أنه اجتهد العلماء من بعده عليه السلام وربطوا هذه الأمور الجديدة -والتي نبعت نتيجة التطور الجديد في المجتمع- بآيات وأحاديث! باختصار طبَّقُوا مبدأ “أجتهد رأيي ولا آلوا!”

الإشكالية أنه أُسقِط دور الاجتهاد الذي أدى إلى فهم معين، فأُعطِي رأيُ العلماء الناتج عن الاجتهاد الحكمَ الإسلامي النهائي، وكأنه لا فرق بين الوحي وعملية الاجتهاد في فهم الوحي أيا كان؛ بأثر أو برأي، يبقى الأمر اجتهادا! ومن هنا فلعله كان من الأجدر تسمية مثل هذه القضايا بـــ “الفكر الإسلامي” لا قضايا عقدية، ولا شك أن الحدة تخف بذاك!

ثم إنه من الجميل أن علماء المسلمين استطاعوا العملَ على توسعِة الصدور في الخلافات الفقهية، ومحاولة غرس ذلك في الأذهان، ولم يستسيغوا الأمر نفسه في القضايا الفكرية العامة! وإن كان الأجدر تنزيل قاعدة “من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد” على الامرين: الفقه والفكر.

يجب أن أؤكد أن قضايا العقيدة تكمن في أركان الإيمان ابتداءً! وقضايا الفكر الإسلامي تكمن في شروحاتها الجديدة من قبل العلماء أو إيجاد رأي إسلامي حول غيرها من القضايا الجديدة غير الفقهية! ومثاله الإمامة، ومنزلة مرتكب الكبائر، والإيمان بالقدر بما يشمل علم الله وإرادته وقدرته ومشيئته لكل ما يحدث في الكون، هل للإنسان دورٌ في هذا ليتحمل مسؤولية عمله أو ليس له دور، وهكذا؟!

حديث تفرقة الأمة

ما مكانة الحديث المعروف ” افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة” من وحدة الأمة، ومن تنزيل “بأسهم بينهم شديد” و”تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى”؟

يجد المتتبع الآراء الآتية حول الحديث:

– ليس صحيحا: فهو موضوع أو منكر أو ضعيف. ذهب ابن حزم إلى ذلك، وقال بمثله عبد الرحمن بدوي في مذاهب الإسلاميين، يقول ابن حزم: “واحتج من كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز و جل. ذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القدرية والمرجئية مجوس هذه الأمة، وحديثاً آخر تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار، حاشا واحدة فهي في الجنة.. وهذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد وما كان هكذا فليس حجة”.

– صح بعض الطرق والروايات ولم يصح الآخر، وفصّل الزيلعي والألباني في ذلك.

– يصح الحديث باعتبار طرقه وشواهده، ولم يخل أي طريق منها من مقال، نقل ذلك أبو زهرة والقرضاوي.

– بعض روايات الحديث لم تذكر أن الفرق كلها في النار إلا واحدة، وإنما ذكرت الافتراق وعدد الفرق فقطـ، ذكره القرضاوي!

– لدى القول بصحة الحديث، ففي معناه الآتي:

– العدد مجازي أو مؤوّلٌ على غير الحقيقة: وليس المقصود العدد نفسه، كما أنه ليس كل خلاف مقصودا. يقول الشهرستاني: “ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أنه ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما في مسألة ما عُد صاحب مقالة وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد”.

– ما المراد بالأمة في الحديث، هل هي أمة الدعوة وهو ما اختاره المباركفوري في تحفة الأحوذي؟ أم المراد بها أمة الإجابة؟ فإنه على الاحتمال الأول يكون المراد بالامة التي ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، هي أمة الدعوة، ويكون المقصود بالأمة هنا الأديان الأخرى غير الإسلام، وهو ما ذهب إليه الإمام الحافظ زين الدين عبد الرؤوف المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير، ولو حملنا الحديث على الاحتمال الأخير يكون اليهود والنصارى خيرا من أمة الإسلام في العداوة والبغضاء وشتات القلوب؟

يجدر بالذكر أن البغدادي – تــ 429- في الفَرق بين الفِرق عدّ هذه الفرق كلها في زمنه –مطلع القرن الخامس الهجري-، فقال: “فهذه الجملة التي ذكرناها تشتمل على ثنتين وسبعين فرقة منها عشرون روافض وعشرون خوارج وعشرون قدرية وعشر مرجئة وثلاث نجارية وبكرية وضرارية وجهمية وكرامية فهذه ثنتان وسبعون فرقة فأما الفرقة الثالثة والسبعون فهي أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث” السؤال ماذا عن القرون العشر بعده؟!

أخيرا، لعل الإشكالية ليست في تباين الرؤى في الدين والتدين، في العقيدة والعمل، في أصول الدين وفروع الدين؛ بقدر ما هو في التربية والتعليم القائم على التعصّب والتحامل المؤدي إلى العداوة، إذ الاختلاف في الرأي: سواء العقيدة أو العمل، أو الدين والتدين لا يفسد البر والقسط في التعامل وحسن العشرة.

ودليل ذلك وجود دول غير مسلمة تتمتع بعلاقات دولية طيبة مع دول مسلمة، أو على الأقل ليس بينها وبين الدول الإسلامية عداء ديني: مثل الصين والكوريتين وروسيا الحديثة ودول أمريكا الشمالية والهند. وفي مقابل ذلك قد تكون هناك دُول إسلامية متقاتلة، أو لا تتمتع بعلاقات ثنائية طيبة، بل أبناء الدولة المسلمة الواحدة قد تتقاتل “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا”؛ وسبب ذلك كله راجعٌ إلى نوع الخطاب وأسلوبه الذي يقدّم، ويؤجج ذلك باسم التدين. فهذا نداء إلى الجهر بالإسلام وبيانه دون تحامل ودون زرع الحقد والكراهية بين المصلّين. فقد يكون بأس المسلمين بينهم شديد لعامل دنيوي كما يمكن أن يفترقوا لعامل دنيوي كما يرى الشاطبي، القصد هو السعي لتحقيق “إن هذه أمتكم أمة واحدة” ما أمكن؛ أما عن الاختلاف القائم من النوع المذكور أعلاه فإن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وما علينا إلا البلاغ المبين والجميل!