اعتاد كثير من الناس حين يكتبون عن الفقه المتعلق بالعلاقة بالغير في حالتي السلم والحرب أن يقولوا: فقه الحرب والسلام، بتقديم الحرب على السلام، والضبط الشرعي أن يقدم السلم على الحرب فيقال: ( فقه  السلام والحرب)، ذلك أن حكمة الإسلام في هذا الأمر قائمة على تقديم السلام على الحرب، لأن السلام أصل، والحرب استثناء، والسلام أمر كلي والحرب فرع جزئي، والسلام حياة والحرب موت، وأن الله تعالى لم يخلق الناس ليتقاتلوا فيما بينهم فيموتوا بحروبهم، وأنه إن جعل من أسمى الأعمال عنده الموت في سبيل الله، فعند التحقيق، فإن الحياة في سبيل الله قد لا تقل عن الموت في سبيل الله، وإنما فضل الشهيد لأنه آثر غيره بنفسه فقدمها ليحيا الآخرون.

وقد جاءت شريعة الإسلام عدلا وسطا في قضية السلام والحرب، جامعة بين الأمرين، بأحسن تشريع، وأشرف بيان، فهي قد جعلت السلام أصل المعاملة بين المسلمين وغيرهم، وجعلت الحرب صدا للعدوان وحفظا للأديان والأبدان والأنساب والأموال ، ويدل على ذلك عدة أمور، أعظمها أن الدين هو الإسلام، وبينه وبين السلام جذر واحد من حيث اللغة والمعنى، بل إن الله تعالى عبر في القرآن عن الإسلام بالسلم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } [البقرة: 208] أي  ادخلوا في الإسلام، وسمى سبيله أي دينه سبل السلام، كما في قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } [المائدة: 16]

وفي تفسير الطبري (10/ 145) عن السدي:”من اتبع رضوانه سبل السلام”، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية.

كما أن الله تعالى جل في علاه تسمى باسم ( السلام)، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23] وقد ورد في السنة:” اللهم أنت السلام ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام”، وسمى الله تعالى دار خلوده وجنته التي أعدها لعباده الصالحين بدار السلام، كما قال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]، كما جعل تحية المسلمين فيما بينهم أن يدعو المسلم لأخيه بقوله: السلام عليكم ورحمة الله، وحث النبي صلى الله عليه وسلم إفشاء السلام بين المسلمين فقال فيما أخرجه الترمذي:” أفشوا السلام بينكم”، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم المسلم بقوله فيما أخرجه الترمذي والنسائي:” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، فالسلام هو الرابطة الكبرى بين المسلمين.

الجهاد في التشريع يحمل أخلاقا والمجاهدون ملتزمون بمراقبة الله تعالى حتى في قتالهم مع غيرهم

كما جعل الله تعالى أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم السلام، ونهى المسلمين عن حرب غيرهم إلا أن يعتدوا، فوضع قاعدة ذهبية في التعامل مع الغير بقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الممتحنة: 8، 9].

وفي الواقع العملي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مكث أكثر من نصف زمن النبوة لا يحارب الناس، بل يصبر على إيذائهم، وحين يشتكي الصحابة ضعفهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس ويستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم في قتال الكافرين يرفض قائلا:” إني لم أومر بقتال.

كما لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ المشركين بحرب بغتة أو فجأة، بل وضع النبي صلى الله عليه وسلم أول دستور مدني في تاريخ البشرية وهو المسمى بـ(وثيقة المدينة)، فقد كانت الدول قبل دولة النبي صلى الله عليه وسلم على ملة واحدة، لا تقبل تعدد العقائد، بل ربما لم تقبل الإثنيات العرقية والمذهبية، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم ووضع دولته في المدينة، فوضع دستور المواطنة الذي يكفل لكل المواطنين في دولة الإسلام حقهم في العيش بحرية، مالم يخونوا الدولة التي يعيشون فيها، وقد كان يسكن المدينة آنذاك أعراق متباينة ويتجاور فيها عقائد مختلفة، فهناك الأوس والخزرج واليهود الذين نزحوا إلى المدينة بعد انهيار سد مأرب باليمن، وقد كان فيها من العقائد:  الإسلام ومعه اليهودية والنصرانية وعبادة الأوثان والأصنام، فنشأت أول دولة في تاريخ البشرية تقبل التعددية العرقية والتعددية الدينية تحت ظلال الإسلام دين السلام.

ولكن إن كان الإسلام جعل أصل العلاقة مع غير المسلمين السلام، فلماذا شرع الحرب وخاض النبي صلى الله علي وسلم حروبا طيلة الفترة المدنية؟

والجواب على هذا أن الإسلام شرع الحرب الذي سماه الجهاد، وكثير من الناس الآن يتهرب من مصطلح الجهاد، ولا يتحرج من استعمال لفظ الحرب، رغم أن الجهاد في التشريع يحمل أخلاقا والمجاهدون ملتزمون بمراقبة الله تعالى حتى في قتالهم مع غيرهم، والحاصل أن الإسلام شرع الجهاد وقتال المعتدين لإحياء وإشاعة السلام، وذلك أن الله تعالى حينما أمر المسلمين بإعداد العدة والتجهز لأي اعتداء عليهم، فإنما يقصد بذلك أن يخوف كل من يفكر في الاعتداء على المسلمين، فيعرف أن مصيره أن يقاتل قوما الموت أحب إليهم من الحياة فيكف عن الحرب، فيكون الجهاد قد شرع لإشاعة السلام كما يقول بذلك الشيخ الطاهر ابن عاشور.

ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

الكفار إذا علموا أن كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم

الأمر الآخر أن الإسلام دين واقعي يعلم طبائع النفوس المستبدة، وطموح الملوك السلطوية في توسع ممالكهم ولو على حساب غيرهم، ولو سالت في سبيل ذلك الدماء من جيوشه وجيوش من يقاتل، فجاءت شريعة الجهاد لتحمي تلك الدماء المصونة مؤمنين وكافرين، وتمنع إسالتها من خلال القوة العاقلة، والشريعة الهادية، ولذا كان الجهاد من الإعجاز التشريعي، وقد قال الله تعالى آمرين الفئة المؤمنة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } [الأنفال: 60]

وقد جاء في تفسير المنار (10/ 56-57): قال الرازي في التعليل: ثم إن الله تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال: ترهبون به عدو الله وعدوكم، وذلك أن الكفار إذا علموا أن كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك الخوف يفيد أمورا كثيرة:

أولها – أنهم لا يقصدون دار الإسلام.

ثانيها – أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية.

ثالثها – أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان.

رابعها – أنهم لا يعينون سائر الكفار.

خامسها – أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام.

ثم قال في تفسير الآخرين من دونهم: والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء، كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، ثم فيه وجوه:

الأول وهو الأصح أنهم هم المنافقون – وبينه من وجهين:

الأول – أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع طمعهم من أن يصيروا مغلوبين، وذلك يحملهم على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان.

الثاني – أن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات، ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق فيما بين المسلمين، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم، وترك هذه الأفعال المذمومة اهـ.

إن الحرب شرعت حماية للمجتمع المسلم، ودرءا لاعتداء المعتدين، ولهذا جعل الله تعالى للجهاد حدا واضحا هو أن لا يزيد عن صد الاعتداء دون زيادة، وأن يتقوا الله تعالى بالالتزام بصد الاعتداء فحسب، كما قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] ، وأبان للمؤمنين من يجوز قتالهم فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

ولسائل أن يسأل: لماذا كانت تلك الغزوات والحروب ضد الروم والفرس، وهل اعتدى الروم والفرس على المسلمين؟

ويقابل هذا السؤال بسؤال أكثر وجاهة، وهو : لماذا أتى الروم والفرس إلى بلاد الجزيرة العربية؟ فالروم والفرس ليسوا عربا، لكنهم كانت لهم أطماع في توسعة ممالكهم باعتبارهما القوى العظمى آنذاك، فجاء الإسلام ليحرر جزيرة العرب من احتلال الفرس والروم لديار المسلمين.

السلام هو الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم، وأن الجهاد شرع لأجل الحفاظ على السلام من اعتداء الظالمين على الضعفاء

وقد قسم الفقهاء الجهاد إلى نوعين: جهاد دفع وجهاد طلب، ويقصد بجهاد الدفع أن يدفع المسلمون الكافرين إن غزوا ديارهم، ولا شك أن هذا النوع من الجهاد لا خلاف في مشروعيته، بل تتفق عليه أيضا كل القوانين الدولية والوضعية، وهو من سبيل الدفاع عن النفس، وفي شأن جهاد الدفع نزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ  الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 39، 40].

والنوع الآخر: وهو جهاد الطلب، والمقصود به إزالة موانع الطغاة أمام دعوة الناس للإسلام باعتباره الدين الخاتم، ثم بعد عرض الإسلام عليهم لهم أن يسلموا ولهم أن يبقوا على دينهم، تقريرا لقاعدة الحرية الدينية في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [البقرة: 256]، فالعقائد لا تتصور بالإكراه، والقلب لا يفتح بسيف، وإنما يفتح بالذكر الحكيم، وقد خاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]. ونحن معنيون بنصوص الوحي المنزل، وقد يكون في تاريخ الإسلام بعض الأخطاء من بعض الحكام تحسب عليهم وليس على الإسلام، حسب اجتهادهم.

خلاصة القول: أن السلام هو الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم، وأن الجهاد ( الحرب) شرع لأجل الحفاظ على السلام من اعتداء الظالمين على الضعفاء، ولهذا جاء الإسلام وسطا، فلم يجعل الحرب أصلا، ولكنه لم يكن يوما ما دين ذل وهوان، بل دين قوة وعزة، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]