نشرت دار جسور الموريتانية قبل أسابيع ترجمة لكتاب “روايات أصول المجتمعات البيظانية،مساهمة في دراسة ماضي غرب الصحراء” لمؤلفه عالم الانتروبولوجيا  الفرنسي الراحل بيير بونت(pierre bonte) .

ترجمة وتحقيق الدكتور محمد بن بوعليبة بن الغراب مدير دار النشرجسور التي نشرت مؤخرا ترجمات مهمة للعديد من الأعمال الرائدة في الدراسات التاريخية والانتروبولوجية المتعلقة بموريتانيا.

يتناول الكتاب الذي يقع في 915صفحة من الحجم الكبير ماضي شعوب غرب الصحراء والذي لاينحصر في حدود موريتانيا الحالية ،إذا ما أخذنا في الاعتبار المجال الثقافي واللغوي المتمثل في تراب البيظان،ويعتمد بيير بونت في دراسته المعمقة لهذ المجال الجغرافي والبشري على مرتكزين أساسيين :

أولهما الوثائق والمخطوطات (أنظام ،أحكام ،نوازل ،عقود) وهي مصادر أكثر مضاء في نظر بييربونت كعالم متمرس في علماء الاجتماع إذ كان يتحفظ علي المعلومات الواردة في الروايات الشفهية التي جاء بها الإداريون الفرنسيون نظرا لكونها جمعت من لدن مخبرين محليين مغرضين وصاغها إداريون كانت لهم رؤيتهم السياسية الخاصة.

أما الثاني فيتعلق بما يسميه الأساطير الصحراوية التي نسجت بعد دخول الإسلام فقام بجمع التقاليد المروية والمكتوبة المتعلقة بصحراء البيظان والشعوب المجاورة من طوارق وزنوج. فالأسطورة  في نظر “بيير بونت”  ليست فقط موضوع تاريخ بل إنها تمدد زمن التاريخ إلى الأصول وتثري مناهج المؤرخ وتغذي مستوى جيد من التاريخ كما يقول صاحب كتاب “التاريخ والذاكرة” وهو توجه بحثي يندرج في سياق نظري أوسع انتظم خلال العقود الأخيرة حول فكرة الذاكرة .

لقد وسعت الانتروبولوجيا التاريخية بشكل معتبر حقل الدراسات التاريخية من خلال انفتاحها على دراسة مواضيع جديدة تساعد في معرفتنا للماضي فيما يخص تاريخ الأخلاق والسلوك وأشكال التعايش الاجتماعي.وتنتمي روايات الأصول إلى نوع  شبه كوني نجد تجلياته في جميع الثقافات الإنسانية وهو نوع يجمع نصوصا ذات طبيعة متنوعة وتوجد في شكل شفهي أو كتابي وهي متفاوتة في درجة تقنينها .

والسؤال المركزي الذي طرحته الدراسة ،هو ،ماذا عسى  التحليل حول معرفة ماضي هذه المنطقة من جنوب الصحراء الواسعة أن يقدمه في غياب وثائق محلية مكتوبة تعود إلى ماوراء القرن السادس عشر علما بأن هذا الغياب لايبدوا قابلا للتعويض؟.

وقد قسم المؤلف كتابه إلى خمسة أجزاء رئيسية ،هي :

الجزء الأول : “منظومة الروايات المتعلقة بالإمام الحضرمي” وفيه يتناول مرحلة الدولة المرابطية التي قامت في الصحراء  في القرن الخامس الهجري وقام باستعراض الروايات التاريخية المتعلقة بهذه المرحلة رموز ومؤثرات .

الجزء الثاني: “تأسيسات الكصور (المدن القديمة )” ويتناول فيه السياقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية لنشأة هذه المدن والقبائل والشخصيات المؤسسة لها وأنماط الحياة الدينية لسكانها وصراعاتها مع المجموعات المنافسة .

الجزء الثالث: “الأولياء” ويتناول فيه  قداسة الأصول وأولياء صنهاجة والفاتح عقبة بن نافع و تطور التصورات السياسية لقبائل الزوايا ومواقف الفقهاء حول الجماعة والقبيلة والمهدوي والدعوي و قراءة أدوار الطرق الصوفيه.

الجزء الرابع : “العرب والبربر” ويتناول في هذا الجزء الروايات المتعلقة بأصول القبائل الصنهاجية والقرشية والأنصارية  والشرفاء .

الجزء الخامس :”تكوين المجتمع البيظاني” وخصص هذا الجزء لرصد  إقامة عرب بني حسان  في الصحراء وسياق الهجرة الهلالية و تشكل مجتمع البيظان وتكوين الامارات  ومأسسة الحماية وتراتبية الفئات .

 إن هذه الروايات المنتقاة بعناية وبإرادة في الدقة تغذيها البحوث الميدانية التي قام بها بيربونت خلال ثلاثة عقود قد أخضعت لشبكة كثيرة من الإضاءات المتأتية من كل المصادر التاريخية والانتروبوجية  التي جمعها هذا القارئ النهم خلال نفس الفترة حيث قرأ هذا الكم الهائل من الوثائق –بما عرف عنه من قوة ومثابرة في العمل-وهذا الكم من الوثائق هو ربما بدون شك أكبر كم جمعه باحث واحد وحلله عن مجتمع البيظان ،ذلك ما يجعل من روايات الأصول هذه ،ليس فقط ،مجرد إسهام نظري معتبر في العلاقة بين الأسطورة والتاريخ ،بين الذاكرة والتاريخ ،بين الرواية الشفهية والرواية المكتوبة لكنها كذلك –هي كما أعلن عن ذلك بيربونت من قبل مساهمة غنية وأصيلة في تاريخ وانتروبولوجيا شعوب غرب الصحراء.