السعي لتحقيق التوازن الداخلي هو المحرك الأساس لردود فعل الإنسان المقهور في نظر المؤلف، وهو في سبيل ذلك يطرق حلول متعددة ويستخدم وسائل دفاعية مختلفة، بعضها يتخذ شكل الهروب من الواقع(الانكفاء على الذات) والهروب إلى المتسلط (التماهي مع المتسلط) وبعضها الآخر يحاول السيطرة على المصير من خلال “استبدال السببية المادية بالسببية الغيبية”، وهذا ما سنتعرض له في هذا المقال.

يعتبر الجنوح نحو الخرافات والأساطير آخر ما يلجأ إليه (الإنسان المقهور) إنه يمثل إعلان فشل واستسلام نهائي أمام قهر المتسلط وقهر قوى الطبيعة، إنه المرحلة التي تسبق الانهيار الأخير والتلاشي من الوجود، و”يتناسب انتشار الخرافة والتفكير السحري في وسط ما مع شدة القهر والحرمان، وتضخم الإحساس بالعجز وقلة الحيلة وانعدام الوسيلة” ص140.

يحاول الإنسان المقهور التعويض عن فشله في مواجهة واقع الحياة بنجاحات وهمية يظل يطاردها عن طريق الخرافات التي يقنع بها نفسه حينما يحولها إلى دين مقدس، وتستطيع الخرافات (الشعوذة ـ قراءة الطالع ـ جلب الحظ إلخ) غزو وجدان الإنسان المتخلف لأنه لا يستخدم التفكير العقلاني، ومع الوقت تتحول هذه الممارسات الخرافية إلى تجارة تسلبه القليل الذي يملك مقابل أمل زائف في الخلاص مما يحل به من أرزاء الحياة.

ويشجع الحكام في الدول المتخلفة هذا النوع بوسائل مختلفة أبرزها “رعاية المقامات وذوي الكرامات ورعاية الطرق التي تلبس لباسا دينيا حتى يعم الجهل، وتتأصل الاستكانة، وتشيع الخرافة بشكل يطمس الواقع كليا ويصرف الناس عن التصدي الفعال والموضوعي له، وهو ما يحفظ لهؤلاء الحكام مكانتهم ويحول الأنظار عنهم كمسؤولين أساسيين عما يصيب المجتمع من تخلف وانحطاط، أو ما يلم به من كوارث وأزمات” ص141.

يرى المؤلف أن أساليب السيطرة الخرافية على المصير تقوم على أسس نفسية نكوصية، يعود فيها الإنسان المقهور إلى مرحلة التفكير الطفولي الذي “يخلط الواقع بالخيال، والحقائق بالرغبات، والصعاب المادية بالمخاوف الذاتية” ص142، ذلك بأنه يمنح ممارسي الشعوذة ووسائل التصدي السحري للواقع نفس القدرة المطلقة التي كان يخيل إليه إبان طفولته أن والدي يملكانها.

هناك رابط وظيفية دينامية ـ حسب المؤلف ـ تجمع مختلف أساليب محاولات السيطرة الخرافية على المصير، يمكن تمييزها إلى ثلاث فئات رئيسة هي : السيطرة على الحاضر والسيطرة على المستقبل والقدرية، وتشكل هذه الفئات الثلاث المأزق الذي ستكون فيه نهاية الإنسان المقهور وتلاشيه من الوجود وقبل ذلك زيادة أعبائه النفسية والمادية، ورغم ذلك يظل (الإنسان المقهور) متشبثا بها ظانا أنها ستكون طوق نجاته الأخير.

ويسعى الإنسان المقهور للسيطرة الخرافية على الحاضر من خلال (الأولياء) الذين يمثلون عنده رمز الطهر والنقاء فهو يسعى عندهم لجلب الخير ومن خلال المشعوذين الذين يمثلون عنده رمز القوة على قهر قوى الشر (الجن ـ العفاريت ـ الحساد إلخ)، ويعيش الإنسان في هذه الحالة توترا نفسيا دائما، فهو إن أصابه شر رده إلى العين والسحر والجن وإن أصابه خير اجتهد في إخفائه خوفا منهم أن يسلبوه منهم بالعين والسحر والجن.

لا يفوق معاناة الحاضر عند الإنسان المقهور سوى القلق من المستقبل، إنه بعجزه عن الحاضر تنغلق أمامه أبواب المستقبل فيراه قاتما مظلما، فهو يعيش حالة من القلق المرضي على “صحته ورزقه وذويه ومكانته” ص156، ولهذا يبحث دائما عن وسائل للسيطرة على المستقبل، وهي وسائل خرافية بالضرورة، “طالما أن الضمانات مفقودة والتخطيط منعدم والتوقعات المبنية على الجهد العام والذاتي لا أثر لها في العالم المتخلف” ص157. ويلجأ الإنسان المقهور بسبب الأمور السابقة إلى التطير وقراءة الطالع والحظ، ولا يفكر في محاولة السيطرة على الواقع من خلال التدبير العقلاني للموارد والمصادر، والسعي لخلق فرص تطوير الأداء.

ويحتل تأويل الأحلام مكانة كبيرة في العالم المتخلف ـ حسب المؤلف ـ، ورغم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الرؤيا جزء من النبوة إلا أن انتشارها في العالم العربي في هذه الأعصر الأخيرة ترافق مع عمق أزمته وتخلفه، فاصبحت لها قنوات وإذاعات خاصة بها، وقد أصبحت تكبل وتشغل كثيرا من المجتمع خصوصا النساء، وهو ما لم يكن شائعا لهذا الحد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة والتابعين.

ويجعل المؤلف (القدرية) أي رد الأمور إلى القدر إحدى وسائل السيطرة الخرافية على المصير عند الإنسان المتخلف، ولا أوافقه الرأي كليا في هذه، فالإيمان بالقدر خيره وشره أحد أركان الإيمان التي لا يتحقق بدونها، ولكن الإيمان بالقدر ـ عند أهل السنة ـ هو قوة إيجابية وليست سلبية، فلا يعني الإيمان به الاستسلام والركون وقد سأل الصحابة رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حينما أخبرهم أن كل شيء مكتوب عند الله:(فيم العمل إذا؟) فقال لهم:(اعملوا فكل ميسر لما خلق له).

وقد فهم الصحابة القدر فهما إيجابيا يدفع للمغالبة بدل الاستسلام فقال عمر رضي الله عنه محاججا عبيدة في قضية الرجوع بالجيش عن أرض الطاعون:(نفر من قدر الله إلى قدر الله)، وقد بين العلماء أنه لا يجتج بالقدر في المعايب وإنما يحتج به في المصائب، والقيمة النفسية واضحة في الأمرين، فإن الاحتجاج بالقدر في المعايب يؤدي اختلال قيم الحياة والناس ويؤدي إلى استسلام نفسي للضعف والعجز وانعدام الحيلة، أما الاستدلال به في المصائب فهو عنصر قوة وعامل تثبيت نفسي يمنع من الانهيار الداخلي.

وفي ختام هذه القراءة أقول:

إن كتاب (التخلف الاجتماعي:مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) للمفكر والباحث الاجتماعي المقتدر مصطفى حجازي؛ هو كتاب قيم رصين استطاع الدخول إلى عوالم نفس الإنسان العربي بعمق وحلل شخصيته وفسر ما يعيشه من قهر وخوف واستسلام وعنف بأسلوب قوي وفكرة واضحة، ولكنه في تحليلاته التي تتماس مع قضايا شرعية كان ينزع إلى علمانية لا تناسب طبيعة الإنسان موضوع الدراسة الذي يشكل الدين عنصرا تأسيسيا في بنائه النفسي، وهو ما أخل بتوازن ودقة تلك المباحث المذكورة.