الاختلاف بين الكلمات الثلاث ليس لفظيا فقط، بل معنوي ومادي، يبدأ من اختلاف المنابع والأصول، ويمتد إلى الفروع والأغصان، مرورا بالأماكن والبيئات، فيظهر التناسب بين التربة والمبذور؛ إذ يخرج البلد الطيب نباته بإذن ربه، قال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:58].

     الشورى منهج نابع من الوحي، فلم يستثن الله أحدا من الأخذ به، فقد أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، وعلى ذلك يمكن القول: لا مسوغ للخروج عن الشورى مهما كانت مكانة الشخص أو مؤهلاته !

     ما وجه عقد معاوية رضي الله عنه البيعة لابنه يزيد؟

معاوية رضي الله عنه من الصحب الكرام الذين يستحقون حسن الظن، وله من المؤهلات الذاتية ما يجعله من أعظم أولي الرأي والتدبير، وهو ذو الحِلْم العظيم والدهاء الفائق، بالإضافة إلى الخبرة الطويلة في ممارسة الإمارة، وهذا ما يميزه عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد تولى الإمارة من زمن أبي بكر، ثم لم يزل منغمسا في تدبير شؤون السلم والحرب حتى غدا خليفة، فامتدت ولايته وخلافته أربعين سنة، فلا يبعد أن يعتبر ممن تمت له أهلية حسن الاختيار، لكن شؤون الأمة لا تقبل غير الشورى كما سبق في الآية، فلا يحق لمعاوية رضي الله عنه ولا لغيره أن ينفرد بها، فيعهد لابنه يزيد، ويأخذ له بتلك البيعة التي لم تستوف شرط الشورى، الذي لا تعتبر البيعة بدونه، وما ورد عن معاوية رضي الله عنه، مما يشبه المشاورة غير كاف ولا معتبر، فمجرد ترشيحه لابنه يعد مخلا بحرية الاختيار في الشورى، لما فيه من الإكراه المعنوي والمادي.

فقد كتب معاوية رضي الله عنه إلى ولاته بأخذ البيعة له، هذا بالإضافة  إلى تصرف بعض الولاة، كما رواه البخاري: (4550) بسنده عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا …”، وقد بينت روايات أخرى أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: “ما هي إلا هرقلية”، ومن الإكراه المادي أيضا: ما اتفقت عليه الروايات التاريخية، حين ذكرت قصد معاوية رضي الله عنه لمكة والمدينة بعد ورود الأخبار بمعارضة أربعة من الصحابة لعقد البيعة ليزيد، وهم: الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وهؤلاء هم من أولى من يعد في أهل الحل والعقد، فلما قدم معاوية المدينة ثم مكة، وقابل الأربعة واحدا واحدا، ثم جمعهم، فاتفق رأيهم على ما تكلم به عبد الله بن الزير، حين قال لمعاوية: نخيرك بين ثلاث خصال، أيها ما أخذت فهو لك، قال: لله أبوك، اعرضهن، قال: إن شئت صنعت ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو ما صنع أبو بكر، أو ما صنع ما صنع عمر….” [تاريخ الإسلام: (4/151).

وهذا المعنى هو ما ذكره ابن الأثير في الكامل: (3/101)، وابن كثير والبداية والنهاية: (8/80)، وغيرهم، فلما رأى معاوية رضي الله عنه إصرار الأربعة المذكورين على موقفهم، حذرهم أن يردوا عليه ما يريد أن يعلن في الناس، ثم أعلن موافقتهم على البيعة، فصدق الناس وبايعوا.

       مسوغات العهد ليزيد؟

    أهم المسوغات التي يمكن التماسها لمعاوية رضي الله عنه: هي قصد سد باب الفتنة والاختلاف، وما قد يؤول إليه ذلك من اقتتال بين المسلمين، لكن طريقته في ولاية العهد كانت مختلفة تماما عن طريقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فكانت نتائجها كذلك مختلفة، وقد لخص نواحي الاختلاف بين الطريقتين عبد الرحمن ابن أبي بكر، فقال: “كان أبو بكر، فكان في أهل بيته من لو ولَّاه، لكان لذلك أهلا، فَوَلَّاها عمر، فكان بعده، وقد كان في أهل بيت عمر من لو ولاه ذلك، لكان له أهلا، فجعلها في نفر من المسلمين” (تاريخ الإسلام/4/148). فهل نجت الأمة من خطر الفتنة والاقتتال بالعهد ليزيد؟أم أنه كان سببا لكثير من ذلك، مع تقوية الحمية والعصبية لهذا النهج الخاطئ المبتدع في الإسلام؟!

  كيف قَيَّم أهل الحل والعقد البيعة ليزيد؟

لا شك أن معاوية رضي الله عنه قد أحسن التخطيط والصياغة لإتمام البيعة ليزيد، وقد استجاب له جمهور المسلمين، ولا ينكر أن يكون من بينهم من يستحق العضوية في أهل الحل والعقد، وإن لم تكن ظروف ذلك القبول خالية من نوع من الإكراه المعنوي أو المادي كما ذكرت، إلا أن عددا من أهل الحل والعقد المعاصرين لذلك، قد أنكروا ذلك تصريحا أو تلويحا، فقد قال عبد الرحمن بن أبي بكر: “إنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر كان قيصر” (تاريخ الإسلام/4/148). وقال الأحنف بن قيس مبينا عدم أهلية يزيد للولاية، -وذلك عندما طلب منه معاوية رضي الله عنه أن يُقَيِّم يزيد- فقال: “إنا نخاف الله إن كذبنا، ونخافكم إن صدقنا …” ( البداية والنهاية/ 11/307)، وكان زياد ابن أبيه – على مكانته من معاوية- غير راض بذلك، فكلم يزيد، فأقنعه بأن يكلم معاوية في تأجيل طلب عقد البيعة له. (المصدر السابق).

وكان ممن أبدى الاعتراض أيضا محمد بن عمرو بن حزم، وكان قدومه في وفد أهل المدينة إلى دمشق، في شأن البيعة ليزيد، فقال لمعاوية: “إن كل راع مسئول عن رعيته، فانظر من تولي أمر أمة محمد”، فضاقت نفس معاوية بهذا الرأي لما فيه من الاعتراض، ثم غلب حلمه رضي الله عنه، فوصل محمد بن عمرو وصرفه. (الكامل في التريخ/3/100).

وأول تقييم لهذا الأمر هو ما صدر عن المغيرة رضي الله عنه -وهو صاحب الفكرة ابتداء- فقد قال وهو منصرف بعد إلقاء مقترحه على معاوية: “وضعت رجل معاوية في غَرْزِ غَيٍّ لا يزال فيه إلى يوم القيامة. (تاريخ الإسلام/5/272).

وقد علق الحسن البصري رحمه الله على مقترح المغيرة رضي الله عنه بقوله: “أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف …. والمغيرة بن شعبة حين اقترح البيعة ليزيد، قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة. ( المصدر السابق). وقد نقل الشيخ محمد رشيد رضا: ما يطابق قول الحسن عن واحد الساسة (الألمان) مخاطبا أحد شرفاء الْحجاز. ( الخلافة والملك/1/53).

ماذا نقرا الآن من العهد ليزيد؟

تطبيق الشورى مرحلة متقدمة من حياة الأمة الإسلامية، فلا بد أن تسبقها مراحل، يتركز العمل فيها لتحقيق هدف واحد: (هو بناء مؤسسات الشورى)، وقبل تحقيق هذا الهدف يكون الحديث عن الاختيار الصحيح للحاكم أو الأمير في غير محله، والمراحل الأولى لتكوين الأمة تحتاج لشخصية متميزة في خصائصها، حتى لا تُحَدِّث أيَّ فرد نَفْسُه في منازعتها في تلك المرحلة الحرجة، التي تبنى فيها مؤسسات الشورى

وقد تولى الله عن هذه الأمة اختيار تلك الشخصية، فبعث نبيه صلى الله عليه وسلم، فتولى بناء مؤسسات الشورى وإن كان ذلك بصورة معنوية، إلا أن نتائجها ملموسة مرئية، فلذلك لم يحدث بين الجيل الأول من الصحابة ذلك الاختلاف المفسد لكيان الأمة، فإذا تغير الحال، وضعفت مؤسسات الشورى في الأمة، أو في أي جزء منها، حتى صار انتظام حياة هذا الجزء أو ذاك معتمدا على الأفراد والْعَصَبات، ففي تلك الظروف يمكن فهم طريقة التوريث، على أنها ضرورة كأكل الميتة، فإذا أراد الذين مكنهم الله في تلك المرحلة أن يقدموا البرهان على سيرهم بالأمة نحو التقدم، فعليهم التركيز على بناء مؤسسات الشورى، في أقرب وقت ممكن، وبأسرع طريقة؛ لتخرج الأمة من حال الضرورة إلى السعة والاستقامة.