يخصص الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون كتابه (روح الاجتماع) لتحليل الحالة النفسية لـ”الجماعات”، وهو كتاب يتعاضد مع كتابه “روح الثورات” الذي خصصه لدراسة الحالة النفسية للشعوب، ومن خلال الكتابين تنبني لدى القارئ صورة داخلية للشعوب والجماعات تمكنه من معرفة الخلفيات والدوافع وطرق التأثير.

يتناول الكتاب المميزات العمومية للجماعات وقانون وحدتها الفكرية النفساني ومشاعرها وأخلاقها إضافة إلى الأفكار والمعتقدات التي تحكمها ولا يغفل الحديث عن قادة الجماعات وطرقهم في الإقناع  ثم أقسام الجماعات وأنواعها، وفي كل هذه الأبواب يغوص الكاتب إلى ما وراء الصورة الظاهرة والحكم السائد.

يطلق الكاتب الجماعات على مفهومين أحدهما: (الجمهور) والثاني (النقابة)، وهذا الازدواج المصطلحي طبيعي حيث أن الكاتب واكب بدايات الحركات الجماهيرية والنضال الاشتراكي في أوربا بعد الثورة، وكان مراقبا للدور المتنامي للجماهير إلى درجة أنه سمى ذلك العصر (زمن الجموع).

“كان للجماعات المنظمة على الدوام تأثير كبير في حياة الأمم، إلا أن هذا التأثير لم يبلغ في زمن من الأزمان مبلغه في الزمن الحاضر، فقد حل في أيامنا هذه تأثير الجماعات على غير قصد منها محل تأثير الأفراد المقصود لأربابه بالطبيعة، وأصبح من أخص صفات الحياة الحاضرة” ص3.

من خلال الاجتماع المقصود المنظم تتولد صفات جديدة تختلف عن صفات كل فرد في المجموع وذلك سر قوة الجماعات وتأثيرها، وذلك من خلال ما سماه لوبون: (اختفاء الذات الشاعرة) و(واتجاه المشاعر والأفكار نحو غرض واحد)، وهما الصفتان الأوليان للجماعة إبان انتظامها، ولا يتحقق هذا التحول السلوكي من خلال التجمع العرضي الذي ليست له غاية واحدة.

إن أهم ما يميز الجماعات هو هذه (الروح العامة) التي تجعل سلوك الأفراد يسير وفقها حتى ولو كان تصرف كل واحد منهم خارج الجماعة مناقض لسلوكه داخلها، ذلك بأن من الأفكار والمشاعر ما لا يتولد أو يتحول من العالم القوة إلى عالم الفعل إلا عند الفرد في الجماعة.

ويؤكد لوبون أن هذا التحول السلوكي ناتج عن استعداد طبيعي لكل القوى المدركة لتوليد أخلاق جديدة إذا تغيرت البيئة من حولها تغييرا فجائيا، عن طريق حادث ما أو الدخول في جماعة، ويضرب مثالا ببعض رجال الثورة الفرنسية فيقول:”… هكذا رأينا بين رجال الثورة الفرنسية أفرادا كانوا كالوحوش الضارية، وقد كانوا في زمن السلم قضاة من ذوي الفضل أو موثقين أولي سكينة هادئين، فلما سكنت العاصفة عادوا إلى سكينتهم”.

يحاول لوبون تحديد الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة من خلال اللجوء لعلم النفس الاجتماعي فيرى أن أفراد الشعب يتشابهون في العناصر اللاشعورية التي نتجت عن عوامل وراثية وبيئية سحيقة وغير مرئية، ولكنهم يختلفون فقط في العناصر الشعورية التي مرجعها لطبيعة التربية، “… فقد يكون بين الرياضي الكبير وبين صانع حذائه بعد ما بين السماء والأرض من حيث العقل والذكاء، ولكن الفرق بينهما في الطباع معدوم في الغالب أو ضعيف للغاية” ص16.

من الأسباب التي تقف خل هذه التبدل السلوكي الذي يقع للفرد داخل الجماعة ـ حسب لوبون ـ؛ “أن الفرد يكتسب من وجوده داخل الجمع قوة كبيرة تشجعه على الاسترسال في أمياله مما يحجم عنه منفردا بالضرورة، ثم هو لا يكبح جماح نفسه لأن الجماعة لا تسأل عن أفعالها لشيوعها بين جميع الأفراد، فلا يشعر الواحد منهم بما قد يجره العمل عليه من التبعة، وهذا الشعور هو الزاجر للنفوس عما لا ينبغي” ص17

أما السبب الثاني فهو (العدوى) ـ كما سماها لوبون ـ حيث أن كل سلوك في الجماعة هو مُعْدٍ، ولعل تضحية الأفراد داخل الجماعة بمصلحتهم الذاتية من أجل مصلحتها يؤكد هذا، حيث أنه من الأعمال التي يصعب القيام بها خارج إطار الجماعة، وتقترب من العدوى (قابلية التأثر)، حيث أن الفرد في الجماعة يأخذ سند فعلته من زميله الذي إلى جنبه أو من جمهوره الذي يعيش بينه لا من دافع ذاتي إرادي.

يرى لوبون أن (الجماعات) أقدر على العمل منها على التفكير، بل يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقول بانحطاط القوة المفكرة عند الجماعات حتى تلك التي تتألف من نوابغ أهل الفضل، ويعلل ذلك بأن نشاط الجماعات كثيرا ما يأخذ منحى مطلبيا خدميا، ولا ينظر بشكل عميق إلى المآلات والأبعاد الاستراتيجية للقرارات التي يطالب بإصدارها والعمل بها.

ومما يدل أيضا على أن (الجماعات) لا تفكر بشكل عميق بل هي سطحية غالبا، ذلك بأن التدقيق في روح الجماعات وأحوالها النفسية يوصل إلى أنها لا تقاد بقواعد العدل النظرية، بل بالبحث عما من شأنه التأثير فيها واختلابها، ويضرب لوبون لذلك مثالا:

“لو أراد وازع فرض ضريبة جديدة وجب عليه أن لا يختار التي هي أقرب للعدل من حيث قواعد الاقتصاد في ذاتها، فربما كان أبعدها عن العدل أكثرها قبولا بالفعل عند الناس (…)، فالضريبة المقررة مقبولة لدى الجمهور كيفما كانت باهظة الثمن لأنهم يؤدونها تدريجيا على أقسام صغيرة عند شراء حاجتهم اليومية، فهي لا تضيق عليهم فيما ألفوه ولا تؤثر فيهم لذلك تأثيرا غير محمود، فإذا بدلت هذه الضريبة بضريبة الإيراد أو الأجور بحيث يدفعونها مرة واحدة علت أصوات الشكوى من كل جانب، ولو كانت هذه الضريبة أخف من تلك عشر مرات، ذلك لأن مبلغا ذا قيمة ظاهرة حل محل فلس يدفع بالتدريج يوما بعد يوم” ص11.

السر في هذه السذاجة التي تصيب الجماعات ـ حسب لوبون ـ هو أن الجماعات من الناحية النفسية تستغل الصفات العامة في الطباع المحكومة باللاشعورية للأفراد في المقام الأول، ولا تستغل قدراتهم العقلية الشعورية لأن قانون وحدة الجماعات الفكري والنفسي قائم على الطباع الكامنة في لا وعي كل مجتمع عبر العادات والتقاليد والمشاعر الجمعية المشتركة.