يمثل كتاب :(فيزياء المعاني)، لمؤلفه أحمد خير العمري، تجربة رائدة، في مجال الكتابات التي تتناول موضوع الصلاة بأسلوب معاصر، فالكتاب  الذي بين أيدينا، يصور هيئات الصلاة الرئيسية –القيام، ولركوع، والسجود- تصويرا جميلا، يتَّكِـئُ صاحبه على أسلوب تربوي، أدبي، علمي، يدعوا إلى بناء عالم ينطلق بُنَاتُه من المحراب، لإحداث تغيير منشود.

يقع الكتاب ضمن السلسلة الرائعة التي ألفها الكاتب، وأطلق عليها: كيمياء الصلاة. وقد قسم هذا الكتاب :(فيزياء المعاني) إلى: مقدمة، جاءت تحت عنوان: عبوة المعاني، وثلاثة فصول، كل فصل يتحدث عن هيئة من هيئات الصلاة، ففي الأول تحدث عن “القيام”، وفي الثاني عن “الركوع:”، وفي الثالث عن “السجود”، واختتم الحديث بخاتمة بعنوان: آلية الاقتراب.

عصرُ الإدعاء والحرية

ذكر الكاتب في مقدمته (عبوة المعاني)، أن العصر الذي نعيش فيه هو عنصر يدَّعِي أن القوالب قيود، وزنازين، وأقبية، تمنع الانطلاق، والتحليق، كما أنه “عصر الحرية وتحطيم القوالب”، ولكن في المقابل فإن هذا العصر قد تمادى “في مفهوم تحطيم القوالب حتى صار هذا المفهوم بحد ذاته قالبا، أو على الأقل صار له سلبيات القوالب دون إيجابياتها..”{ص:7}.

تحدث الكاتب عن أهمية القوالب، واعتبرها شرطا في الحياة، فقال إنه:”بغير القوالب ما كان لبناء واحد أن يرتفع، وكان الطين سيظل في الأرض والحجر في الجبال سيظل حجرا، وستظل المعادن مختلطة بعضها ببعض، والأفكار هامدة، دون أن ينتفع منها أحد”، لأن القوالب، حسب الكاتب هي “الوسيط الوحيد الممكن لنقل المعاني”.

وهنا يتساءل الكاتب قائلا: عن أي قوالب نتحدث؟، ثم يعطي جوابا للسؤال الذي طرحه، فيقول إن “هيئات الصلاة، وحركاتها وسكناتها، هي القالب الذي يؤطر المعاني ويحتويها..حركات القيام والركوع والسجود التي نظلمها..هيئات الصلاة التي تضم أعماقا من المعاني، نجتهد في تقزيمها دوما..فنقول إنها مجرد هيئات”{ص:9}. يبدو أن الكاتب يريد أن ينبهنا إلى أن الصلاة ليست “مجرد هيئات”، بل عبادة جليلة يتوق إليها المؤمن الحق، ليجد راحته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بلالا:”أرحنا بها يا بلال.

بين القيام والنهوض

يتحدث الكاتب في بداية هذا الفصل عن طبيعة العلاقات التي يجسدها البناء المعماري في المجتمعات على اختلافها، فيذكر أن “الباحة التقليدية في مركز البيت كانت تعبيرا معماريا عن مركزية العلاقة التي تربط بين سكان البيت بالسماء”، كما أن “تداخل البيوت وتقاربها كان تعبيرا عن حالة تماسك كان المجتمع يعيشها فعلا..”، كما كانت “المنارة الإسلامية رمزا لشموخ وتفوق حضاريين”، {ص:12و13}.

بعد هذا التقديم يبدأ الكاتب الحديث عن القيام، وعن المعاني التي تختفي خلف هذه الهيئة  العظمية التي تعتبر أول هيئة في الصلاة، فيشير إلى أن القيام، وإن كان يشبه الوقوف من زاوية ما، لكنهما ليسا بمعنى واحد في الحقيقة، لأن القيام أعمق من الوقوف بكثير. ثم يفرّقُ بين القيام والوقوف، أو بين القيام كأداء دور، وبين القيام كواجب تعبدي أو كنهضة، وفي هذا السياق يستعرض أمثلة على ذلك من القرآن. فمن أمثلة القيام كأداء دور حياتيّ، قيام امرأة إبراهيم، وقيام النخلة، فـ”امرأة إبراهيم تؤدي واجب الضيافة، والنخلة قائمة على أصولها تنتج”{ص:18}. ومن أمثلة القيام في الصلاة (كنهضة) قيام زكريا {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}.{آل عمران:39}.

يصرُّ الكاتب على القول إن القيام في الصلاة “يعني النهوض، بكل ما في الكلمة من معنى، و”إسقاطات تاريخية ومعاصرة، تتعلق دوما بالوضع الإنساني”، فالقيام “هو أن تنهض دوما نحو الأعلى من سطح الأرض، نحو قمم تساهم أنت في بنائها”، من خلال هيئة من هيئات الصلاة التي هي بمثابة “دورة تكوينية نعيد من خلالها صياغة أنفسنا، ونهيئها لإعادة صياغة العالم”{ص:15}.

يذكر الكاتب أن القيام أنواع لكن “النهوض واحد”، ثم يستعرض أربعة أنواع من القيام ذكرت في القرآن، أول هذه الأنواع: القيام الشامل، الذي يصفه الكاتب بـ”الحتمي أو القسري”، وهو قيام الناس لرب العالمين :{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.{المطففين:6}. والثاني: القيام بالقسط:{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.{الحديد:25}.والثالث:قيام قائم على الاستغلال وأكل الربا يمتلك صاحبه كل “مظاهر النهضة”، لكن هذا القيام هو أسوأ قيام، لأنه مثل قيام:{الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}.{البقرة:275}. والرابع: قيام ذكر بعد الدعوة للحفاظ على الصلوات الخمس :{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}.{البقرة:238}.

الركوع: بوابة الخضوع

في بداية الفصل الثاني، تحدث الكاتب عن الركوع، ووصفه بأنه: “قلب الصلاة”، والطراز الثاني الذي نتشكل عبره من خلال الصلاة”، لكن الركوع لا يأخذ الأهمية التي يأخذها القيام، وإنما “يأخذ مركزا في الوسط”، وفي هذا السياق ذكر الكاتب أن الركوع خاص بالإنسان تحديدا، واستعرض مجموعة من الآيات التي تبين أن الكون سجد كله لله، منها:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}.{الرعد:15}. ويرى الكاتب أن تخصِيصَ الإنسان بالركوع دون غيره من الكائنات، يعود إلى “العقل الذي هو حتما ليس الدماغ بالمعنى المباشر، لكنه يستخدم وظائف الدماغ وإمكاناته، ليكون ما هو أكبر من مجرد عضو فيزيائي..فالعقل “يعلن عبر الركوع، أنه خاضع لله..”{ص:54}.

يستمر الكاتب في الحديث عن العلاقة بين الركوع والسجود، ويقول إن الركوع بمثابة تمهيد للسجود، و”بوابة الخضوع”، ولعل هذا من بين الأسرار التي جعلت الركوع يسبقُ السجود الذي “هو خضوع كلي بكامل الجسد والروح لله تعالى..فالخضوع العقلي يتطلب رفضا لأي عقيدة أو إديولوجية أو نمط حياة مخالفة أو متناقضة مع ما أمر الله به”{ص:56}. ورد ذكر تقديم الركوع على السجود في القرآن الكريم في أكثر من آية، ولكن ذكرَ السجود قبل الركوع ورد مرة واحدة وهي :{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.{آل عمران:43}.

 

السجود مفتاح الباب

وإذا كان الركوع هو بوابة الخضوع لله، فإن السجود هو مفتاح كل باب مغلق، فهو مظهر الخضوع الكامل الذي يجسده الإنسان بجسمه وعقله لله تعالى، في لحظة واحدة. أشار الكاتب هنا إلى أن السجود لا يمكن عزله عن الركوع، لأن “الصلاة هيئات متداخلة ومتلاحمة، تؤدي ملحمة المعاني التي يتشكل ويتربى الإنسان من خلالها..والسجود مرحلة متقدمة من هذه الملحمة، إنه الحركة الثالثة من سيمفونية المعاني الذي يتناغم فيها الإنسان مع ما خلق من أجله، ويتدرب من خلالها ليكون ما خلق من أجله..”{ص:71}.

تحدث الكاتب عن سجود الإنسان، باعتباره يمثل “معادلة الاستخلاف”، وأشار إلى العلاقة بين سجود الملائكة وسجود الإنسان، وقال إنها :”علاقة متواصلة لم تنته حقا، فالملائكة سجدت بناء على الأمر الإلهي، الذي جعل هذا السجود مراسيم تنصيب تكريمية للإنسان، وهو يتبوأ مكانته التي أعدها الله له، وأعده لها: الخليفة في الأرض..}.{ص:76}. كما تحدث عن النتيجة التي يحدثها السجود، فقال إن “السجود تعبير فيزيائي عن التحام الإنسان بمهمته التي كلفه الله بها، كما أنه تعبير عن التفاعل المطلوب بين الإنسان والأرض، التي هي العالم بأسره، وسيغيرها هذا التفاعل..كما يلج المكبس المولد الكهربائي في الأسلاك الميتة فيولد الحياة والضوء..”{ص:74و75}.

في ختام هذا العرض يجدر بنا أن نطرح بعض الأسئلة، علَّها تمثل حداء لنا في لرحلتنا الجديدة في عالم الصلاة الرحب، منها: هل كابدنا الشيطان يوما لنشعر بلذة وراحة الصلاة؟ هل انطلقنا من محراب الصلاة نحو عوالِم التغيير؟ وهل أعَدْنا بناء حياتنا من خلال الصلاة، لننطلق في مسيرة التغيير المنشود؟.