القرآن الكريم كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكام حميد، هداية للناس، وتبصرة لهم فيما ينفعهم في عاجل أمرهم وآجله.

وقد أنزل الله القرآن وحض على تدبره في آيات كثيرة: “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”، أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا”، أفلم يدبروا القول”، “وهذا كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب”.

ورغم هذا الحض والتأكيد، فقد وقفت متاريس كثيرة دون تدبر القرآن منها الصرف الإلهي: “يؤفك عنه من أفك”، ومنها الهجر الاختياري: “وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا”، ومنها عوامل أنشأها الشيطان لبعض المتأخرين من أجل صرفهم عن كتاب الله، أورد بعضها العلماء، وأرادوا بها الخير، لكنها فهمت على غير وجهها ونزلت في غير محلها، ومنها ما يتعلق باشتراط “النظر في القرآن” بتحقق شروط الاجتهاد.

وقد حالت ضبابية معنى “النظر”، واشتراكه بين مجرد التعقل، والتعقل المؤدي لاستنباط الأحكام، إلى عزوف كثيررين عن التدبر والتفهم في آيات الله المنظورة والمسطورة على حد سواء.
ولما كان من بين شروط الاجتهاد المبيحة “للنظر” في كتاب الله المسطور العلم بأسباب النزول، وكان الباحث فيها في كتب التفسير وكتب الأسباب يسير في مهمه، ويرى الأقوال المتضاربة المتناقضة، أردت التطرق لهذا الموضوع، حتى لا تكون الوسائل عوارض صارفة عن المقاصد.

لذلك أردت أناقش الموضوع من خلال النقاط التالية:
معنى سبب النزول.
طرق معرفة سبب النزول.
فائدة سبب النزول.
أثر سبب النزول في الأصول.
أثر سبب النزول في الأحكام.

 1- معنى أسباب النزول للقرآن الكريم

اختلف الصحابة رضي الله عنهم في استعمال سبب النزول، فقد يقولون: “نزلت هذه الآية في كذا”، أو وقع كذا فنزلت آية كذا. أو ما أرى آية كذا إلا نزلت في كذا….
وقد اختلف العلماء من بعدهم في فهم مراد الصحابي بذلك تبعا لاختلافهم في الاصطلاح حول معنى “أسباب النزول”؛ فللعلماء في معنى “سبب النزول” رأيان:
الأول: رأي التوسيع: ويمكن أن يحمل عليه استخدام الواحدي لسبب النزول، فقد كان يورد في “أسباب النزول” قصصا بعيدة عن الآية زمانيا، ولا تتعلق بها الآية إلا من حيث كون الحادث موضوعا لها، كما في قصة أصحب الفيل، التي اعتبرها سببا لنزول سورة الفيل. وقد رد السيوطي عليه هذا الاصطلاح، وخطأه فيه. وإن كان هذا الاصطلاح لا يخلو من وجاهة لغوية.
الثاني: رأي التضييق: وهذا الرأي أقرب للاصطلاحات الفنية منه للمعاني اللغوية؛ إذ يقصر معنى “سبب النزول” على:
“ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه مبينة لحكمه أيام وقوعه” (الزرقاني).
“ما نزلت الآية أيام وقوعه” (السيوطي).
“حادث وقع في زمن النبي أو سؤال وجه إليه فنزلت الآية أو الآيات ببيان ما يتصل بتلك الحادثة وبجواب ذلك السؤال” (مناهل العرفان).
ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال” (مناع القطان).
وهذا كله متقارب من حيث المعنى، فهو قصر زماني، وموضوعي، للآية على سبب معين، يكون داعيا لنزول الآية.
وغني عن الذكر أن المشتغلين بهذا العلم يؤكدون أن الأصل في القرآن كله عدم الحاجة إلى سبب خاص، فهو كله نزل ابتداء هداية للناس ورحمة لهم، وما نزل منه بسبب خاص هو أقله.
ولا يخفى أن المعنى اللغوي الواسع أليق بالسبب من حيث كونه سببا فقط.
أما من حيث استخراج الأحكام، وقصر الآية على ما نزلت فيه، أو اعتماده أصلا لمعناها، فالمعنى الثاني أليق به، ولا يخفى تأثره بالفقه العملي في هذا المنحى.

2- طرق معرفة أسباب النزول

يتفق المشتغلون بهذا الفن على أن سبب النزول لا يؤخذ إلا من الصحابة الشاهدين نزول القرآن العارفين بأماكن نزوله، وأوقاته، ومواضيعه، ويشتهر في هذا المعنى: “اتق الله وقل سدادا فقد ذهب الذين يعرفون فيم نزل”، وافتخار علي وابن عباس بأنهما يعرفان كل آية وسورة أين وفيم نزلتا…
وإن كانوا يدخلون في هذا السياق مباحث ليست من صميم هذا العلم، كحكم كلام الصحابي في سبب النزول أهو من المرفوع أم من الموقوف، وقد يفرقون بين رفعه ووقفه بموضوع خبره، وبحضوره من غيابه عن الحادثة التي كانت سببا للنزول، كما يفرقون بين صيغ أدائه للسبب هل هي جازمة أو غير جازمة. لكن بعض هذه المباحث أليق بعلوم الحديث منها بعلوم القرآن؛ إذ لا يترتب على الرفع فيها كبير شيء، بل الناظر المتمرس بأسباب النزول يصعب عليه أن ينسب للنبي منها شيئا لا جزما ولا ظنا، وغاية ما في الأمر أن تكون من علم الصحابي أو فهمه، لا من روايته ونقله.
وعموما فإن علماء القرآن يقولون إن معرفة أسباب النزول من الصحابة تتم عبر أسلوبين؛ يقيني، وظني؛
1- الأسلوب اليقيني: وأشهر طرقه:
أن يقول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا.
أن يذكر قصة، ثم يردف فاء التعقيب قائلا: “…فنزلت الآية”…
2- الأسلوب الظني: وأشهر طرقه:
أن يقول الصحابي أحسب هذه الآية نزلت في كذا.
ما أرى هذه الآية إلا نزلت في كذا.
أن يذكر سبب النزل دون فاء التعقيب.
ويتلخص مما سبق أن أسباب النزول عندهم توقيفية لا تؤخذ إلا بالنقل فلا اجتهاد لأحد فيها.
وأن أساليب معرفته هي تصريح الصحابي بالسببية، أو إشارته إليها.
هذا مع العلم أن التوقيفي لا بد أن يسند صراحة إلى النبي في بعض أنواعه على الأقل، وهو أمر عزيز في أسباب النزول إن لم نقل بانعدامه.

3- فائدة المعرفة بسبب النزول

عد المتأخرون فوائد عدة لأسباب النزول فيها كثير من التداخل، ولا تكاد تتجاوز –إذا ما استثنينا الفائدة التأريخية- الاستئناس للمعنى المفهوم.
وقد أورد كثير منهم مقولات تدل على ارتباط المعنى بسبب النزول، وتعذر فهم المعنى دون فهم سبب النزول، يذكر هذا عن الواحدي وابن تيمية، وغيرهما.
ومن أشهر الأمثلة التي يوردونها على ذلك:
أ – سبب نزول: إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما”.
ب – سبب نزول: لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم”.
والآيتان من الدلالة الذاتية على المعنى ما ينفي الحاجة إلى سبب خاص؛ فقد ردت عائشة رضي الله عنها فهم ابن أختها للآية الأولى بأنه لو كان المرادَ لكان النص: “فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما”.
وأما الثانية فقد ورد في الصحيح تفسيرها بنفس المعنى الذي نفى عنها ابن عباس رضي الله عنه.
وخلاصة القول أن الفوائد التي عدد العلماء لمعرفة أسباب النزول لا تتعدى الجانب التأريخي لنزول القرآن، وبعض الفوائد والنكت العلمية، التي لا يتوقف المعنى على معرفتها.

4- أثر أصول الفقه في سبب النزول

تأثر المتأخرون من “الأسبابيين” (في نقاشهم لأسباب نزول القرآن بخلفياتهم الأصولية، والمدارس الكلامية التي ينتمون إليها إلى حد كبير. فلذلك نجد الخلاف حول القاعدتين: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”/”العبرة بخصوص اللفظ لا بعموم السبب” أثر كثيرا في مجرى البحث في الأسباب، فالذين يرون العبرة بخصوص السبب، -وإن كانوا الأقل عددا- لا يريدون تجاوز السبب ولا تجاهله، بينما الآخرون حتى ولو صح السبب لن يؤثر عندهم في قصر الآية على معنى السبب، لكنه يؤثر عند أصحاب الرأيين في “عين السبب”؛ إذ لا يمكن إخراج حالته من عموم دلالة اللفظ بأي حال من الأحوال.

5- أثر الفقه في أسباب النزول

لم تخل أسباب النزول عند متأخري “الأسبابيين” من تأثر واضح بالخلفيات الفقهية للباحثين، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك ما نقله السيوطي في إتقانه، قال: “قال الشافعي ما معناه في قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [ الأنعام : 145 ] : أن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله ، وكانوا على المضادة والمحادة ، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم ، فكأنه قال : لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه ، نازلا منزلة من يقول : لا تأكل اليوم حلاوة ، فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة ، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة ، فكأنه تعالى قال : لا حرام إلا ما أحللتموه ، من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ولم يقصد حل ما وراءه ، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل . قال إمام الحرمين : وهذا في غاية الحسن ، ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية”. فأين السبب في هذه الآية، وكيف نفهم من السببية دفع توهم الحصر، والإمام السيوطي شافعي، يعرف السبب بأنه: “ما نزلت الآية أيام وقوعه!”.
وعموما فليس تأثر الأسباب بالعلوم الإسلامية منحصرا في هذا فقط، بل قد تأثرت بعلوم الحديث، وطرق وأساليب التحمل والأداء، حتى حملت ما لا تتحمل، وفسرت بما لا يليق بها، كنسبة السبب إلى الرفع، فكيف لسبب وحكاية أن تكون مرفوعة، وهي قد لا تكون يقينية الربط، كما في أحيان كثيرة.

الخلاصة

من خلال البحث في كتب “الأسبابيين” يتضح أن أسباب النزول علم تاريخي محض:

– لم يهتم به الصحابة ذلك الاهتمام، ولم يتلقفه التابعون منهم تلقف غيره من العلوم.

– لم يعتن به المحدثون ذلك الاعتناء، ولم يفردوه باهتمام خاص به، إلا من حيث هو قرائن مساعدة في فهم الصحابة للآيات.

– تكثر الروايات المتضاربة، والأحاديث المتناقضة في أسباب النزول، مما يدل على عدم العناية بها، وضبطها، وعل اختلاف القصد باسم “السبب” إذا ذكر.

– أن أغلب ما يسمى أسبابا لا يدخل في باب الأسباب.

– أن تكلفا كبيرا وقع من المتأخرين في استخراج الأسباب، حتى أصبح النص القرآني يقسم إلى مقاطع، وفقرات قد لا يمكن فهم النص معها لو تصورت ما اعتبروه متقدما أو متأخرا لم ينزل حينها”.

أن الأسباب علم لا يستغنى عن الاستئناس بالصحيح منه في معرفة تاريخ القرآن، وقد يفيد المكثرين في القول بالنسخ، كما قد فيد في معرفة بعض تاريخ المكي والمدني، لكن لا يمكن أن تعطل أحكام الله وشرائع كتابه، ويوقف تفهمه وتدبره والاجتهاد فيه على معرفة علم تاريخي محض، أغلب الصحيح منه ظني الدلالة.