ظل المسلمون على حالة الرقي والتمدن والتحضر- التي أشرنا إليها بإيجاز فيما سبق- حتى دب فيهم الوهن، وكترث الخلافات، وركنوا إلى الترف، وغفلوا عن سنن الله في الأنفس والآفاق.

ومع أن الحروب الصليبية تواصلت عبر قرنين من الزمان، إلا أنها ارتدت إلى نحور الأوروبيين خائبة، لم تفلح في السيطرة على بلاد المسلمين وانتزاع مقدساتهم، ولا في زعزعة عقيدتهم وثقافتهم؛ فقد كان المسلمون أكثر مناعةً ضد الأخطار الخارجية، والأمراض الداخلية على السواء.

لكن لم يكد القرن الثامن عشر الميلادي يبدأ في الاستهلال، حتى انقلب الميزان الحضاري لصالح الدول الأوروبية، التي كانت قد عكفت من قبل- طيلة خمسة قرون- على علوم المسلمين، تُلِمُّ بها وتهضمها.. بينما المسلمون يتغنّون بأمجاد الماضي، وثابتون في أماكنهم! وحركة التاريخ لا تعرف السكون، بل هي في تفاعلية دائبة؛ إما إلى صعود، وإما إلى هبوط!

أصبحنا نواجه ظروفًا مماثلة كتلك التي واجهها الأوروبيون في الحروب الصليبية، حين فوجئوا بتفوقنا عليهم.. كانت الصدمة هائلة.. وبرز من بين المسلمين من دعا إلى تعلم لغات الغرب وعلومه؛ ولكن النتيجة التي أسفرت عنها هذه الدعوة في بلداننا كانت عكسية؛ فأوروبا التي استولت على أرضنا، استعبدت عقولنا أيضًا!([1]).

ويوضح العلامة وحيد الدين خان السبب في أن نتيجة الدعوة إلى تعلم لغات الغرب وعلومه، كانت عكسية، بأن هذه العقلية المقلِّدة ركّزت على تعلم اللغات والآداب الأوروبية من شعر وقصة ورواية وفلسفة؛ أما العلوم والتكنولوجيا- التي هي سر نهضة الغرب- فلم يهتم بها أحد!!([2]).

أي أننا أخطأنا أخطاءً مضاعفة..

– مرةً حين فرطنا في قوتنا ووحدتنا، وأهملنا مبادئ ديننا التي تحثنا على العلم، وامتلاك زمام القوة، واكتفينا بالتغنِّي بأمجاد الآباء والأجداد..

– وأخرى حين غفلنا عن سر قوة الغرب، ولم نستفد حتى من تجربتنا نحن السابقة في الاقتباس؛ حين ترجمنا علوم اليونان والفرس دون عقائدهم وأفكارهم المنحرفة..

– ومرةً ثالثةً حين ترجمنا الآداب والفلسفات الغربية التي لا تتفق مع قيمنا وأفكارنا.. فنحن لم نترك النافع (المعارف التجريبية) وحسب، بل أيضًا اقتبسنا الضار (الأفكار الهدامة)!

وأصبح سؤال العلاقة مع الآخر سؤالاً شائكًا، ملغمًا، تتيه فيه العقول، وتتناقض فيه المواقف بين طرفَيْ نقيض؛ بين رافضٍ لكل ما يأتي من الآخر، جامد على ما في يديه، وبين منبهر بالوافد الغربي، داع إلى أخذ كل ما ينتجه، بحلوه ومُرّه، وخيره وشرّه؛ على النحو الذي دعا إليه طه حسين في كتابه المثير للجدل “مستقبل الثقافة في مصر”، الذي أصدره في أربعينيات القرن الماضي.

وغفل كلا الطرفين، أصحاب الجمود وأصحاب الانبهار، عن أن الانعزال غير ممكن، تمامًا كما أن الذوبان غير مقبول؛ وأن الموقف الوسط هو بين هذا وذاك، وأن تجربتنا الحضارية في الإجابة عن سؤال “التأثر والتأثير” ينبغي الاهتداء بها.

قانون التفاعل الحضاري

ثمة موقفٌ وسط بين “الانغلاق والعزلة”، وبين “التقليد والتبعية”، يسميه د. محمد عمارة موقف “التفاعل الحضاري”؛ وهو موقف يحكُم وينظِّم عملية الأخذ والرد بين الحضارات، ويستلزم ويستوجب، بحسب رؤية عمارة، اكتشافَ مساحة “الخصوصية الحضارية” المكونة لهويتنا الحضارية- والتي لابد من إحيائها، والاستمساك به، وحمايتها كما تحمي الأممُ أعراضها بل وصناعاتها الوطنية- واكتشافَ مساحة “المشترك الإنساني العام” في الإبداع الإنساني؛ لا لنقبله فقط من الآخرين، بل ولنسعى إلى امتلاكه بكل ما أوتينا من قوة، ولنتتلمذ فيه على كل الآخرين الذين يبدعون فيه([3]).

أصبح سؤال العلاقة مع الآخر سؤالاً شائكًا ملغمًا تتيه فيه العقول وتتناقض فيه المواقف بين طرفَيْ نقيض؛ بين رافضٍ لكل ما يأتي من الآخر وبين منبهر بالوافد الغربي

ومن اللافت للنظر، كما يقرر د. عمارة، أن موقف “التفاعل الحضاري” الذي سلكه المسلمون في التفرقة بين ما هو “حضاري خاص” يجب الحفاظ عليه، وما هو “إنساني عام” يمكن بل يجب التواصل فيه مع الآخرين.. أن هذا الموقف هو قانون “حَكَم ويَحْكُم العلاقة الصحية بين الحضارات على مرِّ التاريخ”([4])؛ وليس موقفًا خاصًّا بالمسلمين من غيرهم.

ثم يعطي د. عمارة أمثلة تطبيقية على هذا “القانون العام”، فيقول:

لقد انفتح أسلافنا على الحضارة الهندية؛ لكنهم أخذوا حسابها وفَلكها، دون فلسفتها.

وانفتحوا على الحضارة الإغريقية والرومانية؛ لكنهم أخذوا تدوين الدواوين، ولم يأخذوا شريعة الرومان وقانونهم؛ وأخذوا العلوم الطبيعية، دون الإلهيات والآداب.

وانفتحوا على الحضارة الفارسية؛ لكنهم أخذوا التراتيب الإدارية، دون المذاهب الفارسية.

وعندما انفتحت الحضارة الغربية على حضارتنا الإسلامية، إبّان نهضتهم، أخذوا عنا ما هو “مشترك إنساني عام”، من المنهج التجريبي إلى العلوم الطبيعية، ولم يأخذوا التوحيد الإسلامي ولا الوسطية الإسلامية ولا المثل والمقاصد والأخلاقيات.. بل لقد صنعوا هذا “التمييز” حتى مع المفكر الواحد، مثل ابن رشد؛ فأخذوا عنه عقلانية أرسطو، وتركوا عقلانيته الإسلامية، الجامعة لما بين الحكمة والشريعة من الاتصال([5]).

ومع هذه الرؤية المتميزة للدكتور عمارة، يتفق الأستاذ أنور الجندي رحمه الله، حيث يرى أن الدعوة إلى الانفتاح على فكر الشرق والغرب مقبولة بضوابطها وشروطها؛ وهي نفس الشروط التي قبلها المسلمون حين ترجموا الفكر اليوناني في العصر العباسي؛ فلا المسلمون قبلوا عقيدة اليونان، ولا أهل أوروبا قبلوا عقيدة المسلمين. ونحن اليوم ننظر في كل فكر شريطة ألا يؤثر على مفاهيمنا الأساسية؛ في التوحيد، والنبوة، والوحي، والغيب، والجزاء، والمسئولية والفردية.

وكمثال في هذا الصدد، يقرر الجندي أن العقل الإسلامي يتحفظ على جميع العلوم الإنسانية والاجتماعية التي طرحها الغرب في أفق العالم الإسلامي؛ من نظرية دارون إلى نظريات فرويد، وماركس، وسارتر، ودوركايم، وغيرها؛ لأنها كلها نظريات قامت على أساس “الفلسفة المادية” التي لا تعترف بوجود الله تبارك وتعالى، والتي- أي تلك الفلسفة المادية- تنطلق من مفهوم أن البشرية بلغت رشدها، ولم تعد في حاجة إلى وصاية السماء.

ويبين الجندي أن هذا المفهوم، مفهوم خاطئ أطلقته أوروبا في وجه اللاهوت المسيحي، حين تكشَّف قصورُ الكتب المقدسة أمام نظريات العلم الحديث، حسبما أشار إلى ذلك الدكتور موريس بوكاي في مقارنته للكتب المقدسة مع القرآن الكريم([6]).

أما ما يمكن أخذه من الحضارة الغربية أو غيرها، فيقول الأستاذ الجندي: “الانفتاح يكون في مجالات التنظيم والوسائل والأدوات؛ وهذه الأدوات مجردة، ومن حق صاحبها أن يقدم منها ما يريد، لا ما يفرض عليه. فهذه الصناعات الغربية الحديثة عندما يمتلكها المسلمون لا يقدمون من خلالها إلا الخير، والحلال، وما يرضي الله تبارك وتعالى؛ بعيدًا عن الإثم، والفاحشة، والربا، والخنا؛ وذلك حقهم فيما يملكون من أدوات، ولا يستطيع أهل الحضارة الغربية المنهارة أن يفرضوا عليهم مناهجهم، أو مسارحهم، أو قصصهم الفاسدة، أو إباحيتهم”([7]).

تحديثٌ.. لا حداثة ولا تغريب

إن التمييز والفرز عند الاقتباس من الآخرين أمر مهم وضروري، تشترك فيه كل الأمم الناهضة الباحثة عن استقلالها الفكري والمادي؛ وبالتالي يجب أن نميز بين ما يجوز اقتباسه وما لا يجوز، وإلا ضاعت هويتنا وذابت في حدود الآخرين.

ولذلك فرَّق الأستاذ جلال كشك- رحمه الله- بين “التغريب” و”التحديث”؛ ورأى أن الأول يهدف إلى تقليد المفاهيم والثقافة والأفكار الغربية، التي تتعارض في كثير من أصولها وأسسها مع أفكارنا وقيمنا الإسلامية. أما “التحديث” فيعني التعاملَ مع منجزات العصر وعلومه المتطورة، التي فيها مجال فسيح لـ”المشترك الإنساني العام”، الذي يجوز فيه النقل والاقتباس([8]).

لكن الشائع في المجال الفكري استخدام مصطلح “الحداثة“، للدلالة على مضمون مصطلح “التغريب”، وقد تُستخدم الحداثة بمعنى التحديث والتغريب معًا. يقول الأستاذ منير شفيق: “الحداثة تعني: ريح الغرب، أي ريح استعباد البلاد، وتجزئتها، ونهبها، وتحطيم مكوناتها الروحية والفكرية والإنسانية. أما حين تعني: الهاتف، والسيارة، والمصنع، والعلم، والتقنية؛ فمجال الانتقاء هنا قائم، بل مجال الأخذ والاستيعاب وارد، ولا يجادل في ذلك أحد. فالمواجهة ليست مع هذه، وإنما مع رياح الغرب؛ أفكارًا، وأيديولوجيات، وعلاقات اجتماعية واقتصادية، وقيمًا، ومعايير، وأنماط حياة”.

ويؤكد شفيق أن الوقائع أثبتت أن الاتجاهات الغربية “التي سادت في بلادنا تحت شعار (الحداثة)، لم تأتِ لتحقق تقدمًا وتطويرًا، لا على المستوى المادي ولا على المستوى الثقافي والفكري؛ بل دمرت عوامل التقدم والتطوير حين حطمت مصادر الاستقلالية، وحولت الوطن الواحد إلى أوصال مقطعة وملحقة وتابعة. وعلى الرغم من ذلك، يقال للشعب: عليكم أن تتبعوا النمط الغربي، وتروا العالم ضمن رُؤاه، وتتطوروا وفق مساره. وهذا بالتحديد ما تصر عليه الحداثة؛ على اختلاف ألوانها، وضمن كل تناقضاتها الغربية”.

ومواجهة “الحداثة”، كما يؤكد منير شفيق، لا يكون إلا “بالاستقلال والسيادة، أو الوحدة والأصالة؛ ماديًّا وفكريًّا وروحيًّا”([9]).

العلوم التجريبية لا فلسفتها

وإذا كانت آراء المفكرين التي استعرضناها توًّا تفرِّق بين الفلسفات والأفكار الغربية من ناحية، وبين العلم التجريبي وطرق التنظيم والإدراة من ناحية أخرى؛ فإن الأستاذ محمد أسد- وهو يهودي نمساوي اعتنق الإسلام، وكان اسمه ليوبولد فايس- يلفت أنظارنا إلى فارق مهم قد يخفى على البعض؛ بسبب أن الشائع أن العلوم الغربية التجريبية علوم محايدة؛ هذا الفارق يتصل بالاختلاف بين العلوم التجريبية- التي هي محايدة فعلاً- وبين فلسفتها وأهدافها، التي تتغير وتتبع عقائد كل أمة وثقافتها([10]).

فيقول: “فالمعرفة نفسها [أي العلم التجريبي] ليست غربية ولا شرقية؛ إنها عامة بالمعنى الذي يجعل الحقائق الطبيعية عامة. إلا أن وجهة النظر التي تُرى منها هذه الحقائق وتُعرض، تختلف باختلاف المزاج الثقافي في الشعوب… [فهذه العلوم] تتعلق بملاحظة الحقائق، وبجمعها، وتحديدها، ثم استخراج القواعد المعقولة منها. أما النتائج الاستقرائية… أي فلسفة العلوم؛ فإنها لا تبنى إلا على الحقائق والمشاهدة فقط، ولكنها تتأثر إلى حد بعيد جدًّا بمزاجنا المتأصل فينا، أو بموقفنا الْحَدْسِي من الحياة ومشاكلها… [ومن هنا] فليست دراسة العلوم الحديثة التجريبية هي المضِرَّة بالحقيقة الثقافية في الإسلام، وإنما المضرُّ هو روح المدنية الغربية التي يقترب المسلم بها إلى تلك العلوم”([11]).

التمييز والفرز عند الاقتباس من الآخرين أمر مهم وضروري تشترك فيه كل الأمم الناهضة الباحثة عن استقلالها الفكري والمادي

خلاصة: إذن، من خلال تتبع المسار التاريخي لعلاقة حضارتنا الإسلامية بغيرها من الحضارات، يتضح لنا أن سؤال “التأثر والتأثير” كان حاضرًا، وأنه سؤال طبيعي؛ فالحضارات- خاصة في جانب المدنية- تتفاعل وتتلاقح، ويُفيد بعضها من بعض؛ وهي في طور الميلاد بحاجة لما سبقها، قبل أن تكوّن لها شخصيتها وذاتيّتها؛ فلا حرج من النقل والاقتباس.

غاية الأمر، أننا يجب أن نفرّق بين المساحات التي يجوز فيها النقل والتي لا يجوز، وبين المساحات التي يكثر فيها الاقتباس والتي يقلّ فيها، بل وبين العلوم الطبيعية المحايدة وبين فلسفتها؛ التي تنبني على الرؤية الذاتية الثقافية، وتتغير تبعًا لذلك.

ولأن الإسلام دعوة عالمية، تتخطى حدود اللغة والجنس والزمان؛ فإنه يوجّه خطابه للناس كافّة، ويبحث عن الحكمة أينما وُجدت، في موقف وسطيّ يرفض الجمود كما يرفض الذوبان.


([1]) راجع: “المسلمون بين الماضي والحاضر والمستقبل”، وحيد الدين خان، ص: 17- 27.

([2]) المصدر نفسه، ص: 25، بتصرف يسير.

([3]) “العطاء الحضاري للإسلام”، د. عمارة، ص: 130، كتاب “اقرأ” رقم 626، سلسلة ثقافية شهرية تصدر عن “دار المعارف”، بدون تاريخ.

([4]) المصدر نفسه، ص: 135.

([5]) المصدر نفسه، ص: 135، 136.

([6]) انظر بحثه: “الانفتاح على فكر الغرب؛ حدوده، ضوابطه، محاذيره”، منشور في مجلة “منبر الشرق”، ص: 142، العدد 2، يونيو 1992م. وهي مجلة كانت تصدر عن “المركز العربي الإسلامي للدراسات”، مصر.

([7]) المصدر نفسه، 144.

([8]) “قراءة في فكر التبعية”، جلال كشك، ص: 10، مكتبة التراث الإسلامي، ط1، 1994م. وله أيضًا: “ودخلت الخيل الأزهر”، ص: 22، الزهراء للإعلام العربي، ط3، 1990م.

([9]) “الإسلام في معركة الحضارة”، منير شفيق، ص: 49، 50، دار القلم، 1989م. الكويت.

([10]) أبرز مثال على ذلك، النظريات العلمية في تفسير نشأة الكون؛ فمعظم التفسيرات الغربية لأنها تنطلق من أرضية فكرية مادية، فإنها تتجاهل حقيقة أن الكون من مخلوقات الله سبحانه، وتدور بدلاً من ذلك في متاهات افتراضات لا يمكن القطع بصتحها؛ لأنها غيب حجبه الله عن عباده، قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51).

كما أن عمليات التخصيب وزرع البويضة خارج الرحم لمن يتعثر عندهم الإنجاب الطبيعي.. هذه العمليات تمارس في الغرب دون أن تراعي حرمة اختلاط الأنساب، بل عندهم بنوك لبيع الحيوانات المنوية!! فنحن يمكن أن نستفيد من هذه التقنيات في التخصيب كعلم تجريبي، لكن علينا أن نلتزم بالضوابط الشرعية، إضافة إلى أن أمامنا مجالاً فسيحًا في عالمَيْ النبات والحيوان لنحسِّن ونزيد الإنتاج فيهما.

([11]) “الإسلام على مفترق الطرق”، محمد أسد، ص: 71، 72، دار العلم للملايين، ط1، 1984م، بيروت.