وجّه الكاتب التركي البروفيسور “إحسان قاسم” انتقاداً حادّاً لمن يرون أنّ التجديد في الدِّين يمكن أن يطال كل شيء فيه، مبيّناً أنّ هناك ثوابت لا تُجدَّد مثل القرآن والسنة النبوية، وأنّ ما يمكن تجديده هو ما يفهمه الإنسان في كل عصر عن القرآن والسنة. جاء ذلك في معرض حديثه عن العلاّمة بديع الزمان النورسي في ندوة بعنوان “جهود الإمام بديع الزمان النورسي في تجديد الفكر الإسلامي، والتي نظمتها إدارة ترشيد العمل الإسلامي بالتعاون مع مركز رسائل النور بالسُّـودان واتحاد طلاب ولاية الخرطوم، بقاعة الشهيد الزبير الدولية للمؤتمرات في العام 2012م.

وأبان بروفيسور “قاسم” أنّ رسائل النور التي قام بتأليفها الإمام بديع الزمان النورسي، لا تجدِّد جانباً من الإنسان أو الإيمان، ولا تختص في الفقه أو علوم الكلام، ولكنها تأخذ الإنسان الموجود في هذا العصر كما هو، وتبدأ معه من الصفر، ببساطة وأسلوب عملي يحرّك ما بداخله من كوامن وطاقات مخفية فيجد الإنسان نفسه يقرأ ويتعلم الفقه.

ولكن دعونا نقرأ ما كتبه الأستاذ بديع الزمان بنفسه عن التجديد، لتتضح الرؤيا، ونقف على مدلولات الكلمات التي يبدو أنّه عندما تفوّه بها، كانت عميقةً، دافئة، جيّاشة، تحمل في طياتها الكثير، إذ يقول: “نحن العلماء كأننا أتينا نعالج أمراضاً للناس نحن بعض منها، فكيف أداوي وأنا مريض؟ فبدأتُ أقرأ في كتاب عبد القادر الجيلاني (مفاتح الغيب) فوجدت عبارة (أنت في دار الحكمة تطلب طبيباً يداوي قلبك)، فقلت: أيُّها الشيخ كن أنت طبيبي”، فقرأت الكتاب كأنّه يخاطبني، فعندما أجد عبارة (أيها المنافق)! فكأنما كان يعنيني بها! وعندما أجد عبارة (أيها المشرك)! فكأنما أنا المقصود بذلك! فلم أستطع إكمال قراءة الكتاب، وأحسستُ بجروحٍ عميقةٍ، ولكن بعد فترة وجدت أن هذه الجروح بدأت تتعافى وكان هذا بداية التجديد”. أ.هـ.

ويقول البروفيسور “إحسان قاسم” أنّ الإمام النورسي كان قد أحب كتاب مطلوبات الطريقة النقشبندية، وكتاب عبد القادر الجيلاني (مفاتح الغيب)، لكنّه كان يريد أن يجمع كل ذلك في طريقةٍ واحدة، وكان يقول: “كل الطرق أخذت من القرآن، فإذا أخذتُ من القرآن؛ جمعتُ كل الطرق، ومن ذلك اليوم اعتصمتُ بالقرآن.

وعن مدى تأثير الإمام النورسي على المجتمع التركي يبيّن البروفيسور “إحسان قاسم” في الندوة آنفة الذكر؛ أنّ سقوط الدولة العثمانية أدَّى إلى أن تتحول تركيا للغرب إلى درجة تغيير الحروف والأذان والصلاة التي كانت إقامتها تعتبر جريمة في ذلك الزمان، وكان الناس يتدارسون القرآن سراً ويخبئون أجزاء القرآن في إسطبلات الخيول خوفاً من رجال الجيش والشرطة، فكانت رسائل النور التي تدعو إلى إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة، وتصدى بها للعلمانيين والقوميين والسياسة الميكافيلّية القائمة على التزلُّف والنفاق والمصالح الشخصية، تلك السياسة التي نَحَّتِ الدين جانباً، وولَّى أصحابها وجوههم نحو أوروبا؛ ولهذا رأيناه في هذه المرحلة، يقف بكل قوة في وجه التيارات الإلحادية الشاملة، برغم ضراوة الهجمة وشراستها، وبرغم ما تعرَّض له من نفي وسجن واعتقال.

وفي تعقيبه على الندوة، تحدّث بروفيسور عبد الرحيم علي “الداعية الإسلامي المعروف، ورئيس منظمة الدعوة الإسلامية بالخرطوم، والمدير الأسبق لجامعة إفريقيا العالمية” مؤكداً أنّ سقوط الخلافة العثمانية والاتجاه نحو الحضارة المادية كان أشبه بصدمة المغلوب، فظنّ كثير من الشباب أنّ الخير كله في تلك الحضارة، فوقعت فتنة عظيمة، وانصرف الناس عن القرآن، فوجد النورسي نفسه إزاء قضية جديدة وهائلة؛ مسَّت جوهر الإيمان في قلوب المسلمين الأتراك، فانصرف “سعيد الجديد” عن قضايا “سعيد القديم” فاتجه إلى تجديد الإيمان في القلوب بعد أن كان يحاول (ترقيع) الخلافة العثمانية، فقام بإنقاذ تركيا من غفلة الحضارة المادية.

وأوضح بروفيسور علي أنّ النورسي كان عالماً بعلوم عصره، وعندما يتناول القرآن يشعر الإنسان بأنّه ملمٌ بمشكلة المثقف المعاصر، وهو يرد على تلك الأسئلة دون أن يجعلها قضية، وهو قريب الشبه بالإمام أبو حامد الغزالي.

تراث النورسي

خلال حياته وجهاده المستمر عبر تاريخه الطويل، أثرى الأستاذ بديع الزمان النورسي المكتبة الإسلامية والتركية بعدد هائل من الكتب والمؤلّفات، والتي أحياناً تكون ردّاً على سؤالٍ معيّنٍ من أحد طلبته، وأحياناً أخرى تكون توضيحاً وتبييناً لقضيةٍ مّا، فمن مؤلفاته:

[1] كليّات رسائل النور : تضم تسعة أجزاء، سجّل فيها الأستاذ النورسي كل ما استلهمه من نور القرآن الكريم من معاني الإيمان، وأملاها على محبيه في ظروف عسيرة بقصد إنقاذ إيمان الناس في هذا العصر العصيب بإحياء معاني القرآن ومقاصده في النفوس والعقول والأرواح، فوضع سعيد النورسي في يد الجيل الجديد منهلاً ثرياً، ونبعاً قرآنياً صافياً يحفظ عليهم دينهم وإيمانـهم، ويطهّر قلوبـهم وعقولهم مما قد علق بـها من الأباطيل.

[2] الكلمات: وهي مجموعة رسائل تضم ثلاثاً وثلاثين رسالة، توجز التسع الأُولى منها معاني العبادة والعقيدة ونظر المؤمن إلى الدنيا، ووظيفة الإنسان في الوجود، وأنّ تجارته الرابحة هي في بيع نفسه وماله لله، وأنّ الإيمان بالله والآخرة يحل لغز الكون، وبيان حكمة أوقات الصلاة. ثم رسالة مستقلة في إثبات الحشر في ضوء تجليات الأسماء الحسنى، تعقبها مهمة الإنسان في الحياة والموازنة بين حكمة القرآنوالفلسفة، وإيراد نظائر من الكون للحقائق القرآنية إسعافاً للقلوب التي ينقصها التسليم.

[3] اللّمعات: وهي مجموعة رسائل تضم ثلاثين رسالة تُستهل بالدروس المستخلصة لحياتنا اليومية من مناجاة أنبياء الله يونسوأيوب (عليهما الصلاة والسلام)، ثم بيان أنّ السنة النبوية مرقاة ومنهاج. ورسالة في حكمة الاستعاذة من الشيطان، ومذكرات في العروج إلى المعرفة الإلهية. وبيان أهمية الاقتصاد ومغبة الإسراف، ورسالتين في دساتير الإخلاص في الفرد وفي الجماعة. ثم رسالة في الرد على الطبيعيين، ورسائل رقيقة ودقيقة إلى الأخوات في الآخرة، وبيان أهمية الحجاب، ورسالة إلى المرضى والمبتلين وإلى الشيوخ (من خلال ذكريات المؤلف نفسه)، ورسالة في التفكُّر الإيماني الرفيع، وقبسات من أسماء الله الحسنى (القدوس، العدل، الحكم، الفرد، الحي، القيوم).

خلاصة القول أنّ الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي يُعدُّ مدرسةً متفرّدةً في الفكر الإسلامي الذي يجمع بين التصُّوف العميق، والنزعة السلفية بمفهومها الواسع، واستطاع في فترةٍ وجيزةٍ أن يكوّن قاعدةً عريضةً من مريديه ومحبيه ومؤيّديه في تركيا وخارجها، كسر بهم شوكة الظلم في الماضي، ولا زالوا يحملون شعلة الهداية التي تضيء مسارات الحاضر.