هل ستصبح الهند القوة المسيطرة على العالم بما تملكه من طاقة بشرية شديدة الذكاء وقوية الشكيمة؟ هذا ما ذهبت إليه الكاتبة البريطانية إنجيلا سايني في كتابها “أمة من العباقرة، كيف تفرض العلوم الهندية هيمنتها على العالم”، الذي صدر  في مارس 2015 ضمن سلسلة “عالم المعرفة” التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت.

تعتمد الكاتبة أسلوب السرد الروائي في تدوين رحلتها الاستكشافية التي غاصت خلالها في أعماق القارة الهندية باحثة عن ما يؤيد أو ينفي فرضيتها؛ أي عبقرية الهنود، والتقت في سبيل ذلك أقواما كثيرين من الدكاترة والمهندسين والأطباء والفلاسفة والصحفيين وبسطاء الناس.

لا تفتأ الكاتبة تقارن بين المستوى المادي للهند كدولة يجتاحها الفقر من أقصاها إلى أقصاها وبين طموح طلابها وتفوق مدارسها خصوصا مدارس المهندسين، التي تحولت إلى ماركة مسجلة عالميا للجودة، يقف خلف هذا التفوق نظام مدرسي قاس يجعل 2% فقط من خريجي المدارس هم الذي يلتحقون بكليات العلوم والهندسة والتكنلوجيا، (في 2014 تقدم لاختبارات القبول بكلية الهندسة 472 ألفا من المراهقين، ولم يفز بأماكن سوى 10 آلاف طالب) إنه هو معدل القبول نفسه في الجامعات العالمية، لذلك يبذل الطلاب من أول وهلة جهدا مضاعفا.

الذين يفوزون بمقاعد في تلك الكليات خصوصا المتفوقون منهم يكسبون شهرة كبيرة على المستوى الوطني، لذلك لا يكون التعليم هناك مجرد تلقين إنه –كما تعبر الكاتبة- سباق ضخم للمواهب.

في الدستور الهندي مادة تقول:”يجب على كل مواطن هندي أن يشارك في تنمية الفكر العلمي”، هذا أحد أسرار  هذا التوجه العلمي العارم في دولة تشبه القارة بمساحتها وكمها البشري، صحيح أن لهذه المادة خلفية سياسية إيديولوجية تتعلق بمحاولة موازنة روحانيات الهند الطاغية بشيء من العقل والعلم، لكنها مادة مشرقة على أي حال.

تقدم الكاتبة أرقاما مذهلة في سيطرة الهنود على المجالات الحيوية في العالم، فـ”نحو واحد من كل خمسة من جميع العاملين في حقل الرعاية الطبية وطب الأسنان في المملكة المتحدة من أصل هندي، وواحد من كل ستة علماء موظفين يحملون درجة الدكتوراه في العلوم أو الهندسة في الولايات المتحدة آسيوي، بل إن هناك من ادعى مع مطلع الألفية أن ثلث المهندسين العاملين في منطقة وادي السيليكون هم من أصل هندي، كما يدير الهنود 750 شركة من الشركات التقنية هناك”.

هذا التوجه العلمي المحموم لدى المجتمع الهندي تؤسسه رؤية ثقافية للمعرفة تجعلها في أعلى سلم الاهتمامات، ليست الهند إحدى الدول المتفوقة في الرياضة، ذلك بأن المجتمع يفضل أن يمنح وقته للمعرفة، ويرى الهندي أن الرياضة مجرد تسلية لأوقات الفراغ، تنقل المؤلفة عن كاتب عمود الرياضة الهندي روهيت برجناث قوله: “إن الهند لم يكن لديها وليس لديها ثقافة رياضية”، لذلك تأخذ الهند دائما المواقع الدنيا في الألعاب الأولمبية، باستثناء الشطرنج فإنه الهند تأتي الرابعة دائما، لأن الشطرنج رياضة ذهنية.

يحرص الهنود على إحراز ميداليات ذهبية في العلوم أكثر من حرصهم عليها في التجديف أو في سباق الدراجات، لذلك تجدهم دائما في مقدمة أولمبياد الفيزياء وغيرها من العلوم، “في عام 2009 فازت فتاة هندية لم تتجاوز 19 سنة بميدالية برونزية في الفيزياء، ونشرت بعد ذلك بحثا في إحدى المجلات العلمية عن الفيزياء الكمية، إن معظم الطلاب الذين في سنها لا يقرأون حتى المجلات الأكاديمية”.

هذه الثقافة المجتمعية المتجهة نحو المعرفة جعلت المعلم يحظى بأكبر احترام في الهند، فبمجرد ما يعلمون أنك معلم يرفعون منزلتك ويؤدون إليك رسوم الاحترام والتقدير، تزود الهند كل سنة السوق المحلية والدولية بمئات الآلاف من المهندسين والخبراء، فقد توصل مسح أجراه الإحصائيان إرنست ويونغ في 2009 إلى أن الهند بها أضخم جيش من العلماء والمهندسين في العالم، حيث يتخرج كل عام مليونان من الطلاب من نحو 400 جامعة هندية، منهم 600 ألف مهندس جديد.

يتخرج هؤلاء العباقرة من مؤسسات تفتقر لأبسط وسائل الرفاهية، حيث لا مكيفات ولا مقاعد مريحة ولا وسائل مساعدة للتعلم، وتنفق الحكومة الهندية سنويا أقل من 200 مليون دولار على جميع معاهد التكنلوجيا في الهند وهو ما يعادل 8% فقط من الميزانية السنوية لمعهد ماساتشوستس للتكنلوجيا في الولايات المتحدة، لكن الطلاب الهنود يرفضون المنح الدراسية مفضلين هذا المكان المتواضع لتميزه العلمي والمعرفي، تنقل الكاتبة عن طالب هندي اسمه جين رفض منحة دراسية بجامعة نانيانغ Nanyang  المرموقة للتكنلوجيا بسنغافورة ليلتحق بهذا المكان، قال لها: “لقد أتيت هنا بسبب تميز معهد التكنلوجيا الهندي”، في النهاية مهما كانت البيئة مثيرة للكآبة، فإن العقول من الصعب أن تقهر.

بفضل المهندسين الهنود استطاع العالم أن يعبر ما أطلق عليه “خطأ الألفية” أو Y2K بسلام، حيث إن الشيفرات البرمجية كانت أمام تحدي تحول تاريخ العام في الحواسيب إلى (00) بحلول عام 2000، “أصاب الذعر الحكومات والشركات على مستوى العالم لأن هذه الأزمة الطارئة قد تمسح سجلات البنوك وتجبر طائرات الركاب على عدم التحليق في الجو وتوقف محطات الطاقة النووية إلخ.

حينها دخلت شركات البرمجيات الهندية إلى الساحة، كان خبير البرمجيات الهندي ساهراوت في طليعة المشهد الذي يحاول أن ينقذ العالم، وهو بالمناسبة أكمل دراسته في المعهد الوطني للتكنلوجيا في الهند دون أن يلمس لوحة مفاتيح وذلك لندرة أجهزة الحاسوب حينها في الهند، كان كلما تعلمه نظريا، إنها عبقرية الهند التي لا تحد.

يعود فضل هذه النهضة العلمية لجواهر آل نهرو، الذي عرف أن ثروة الهند ليست النفط ولا التجارة بل ثروتها الإنسان الهندي، فما إن تقلد رئاسة الوزراء حتى وضع سياسة للعلوم، وجعل نفسه رئيسا لمجلس الأبحاث العلمية والاقتصادية، وهي أكبر هيئة منتجة في مجال البحث والتنمية في الهند، جعل نهرو همه توجيههم نحو التفكير العقلاني والعلمي وانتشالهم من التفكير الروحاني الذي يسيطر عليهم، فالهند أمة عميقة التدين ومتعددة الأديان، وتسيطر عليها الخرافة بشكل كبير، كان نهرو يرى أن هذا الوضع يجب أن يتغير ، وأن على الهند أن تكون لها حركتها التنويرية الخاصة بها، تماما مثل أوربا.