في كتابه المهم يوضح د. عبد الوهاب المسيري أن “التدين” هو أحد المجالات التي تصيبها العلمانية بلوثتها؛ فهي لا تفصل الدين عن مجرى الحياة فحسب- كما هو شائع- بل تؤثر فيه، وتحرفه عن مساره الصحيح.

ويبين المسيري أن علمنة التدين قد تكون بأن “يحل الإله في المؤمن، ويصبح من الممكن معرفة الإله من خلال حالة شعورية أو تجربة جمالية يخوضها الإنسان؛ أي إن الإله يصبح أمرًا خاصًّا بالقلب والضمير الشخصي (الإنساني).. ومع تزايد معدلات العلمنة يتصالح الدين والواقع، ويتماهيان؛ إلى أن يصبح الدين (واقعيًّا) يستمد معياريته من الواقع”([1]).

وقد تكون علمنة التدين بخلاف ذلك بأن “يصبح التدين طريقةً لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه وحسب، ولا يركز المؤمن إلا على الجوهر الرباني الواحد، ويغرق في (تمارين صوفية)، محاولاً الالتصاق بالخالق والتوحد معه. ويحاول الإنسان أن يتحرر من أدران المادة ليحقق صفاءً روحيًّا”.

ويلفت المسيري إلى أن “الهدف الأساسي للتجربة الدينية في هذه الحالة هو الخلاص الشخصي وحسب؛ دون الاكتراث بالآخرين، ودون الاهتمام بالتاريخ وعالم السياسة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق العدل في الأرض. ومن هنا يتم التركيز على الحياة البرزخية وعذاب القبر وحساب موعد قيامة الساعة، ورحلة الانتقال من هنا إلى هناك، والاهتمام بشعائر الانتقال وتراكم الحسنات وتقدير قيمتها وحسابها – وكأن الإنسان يعرف قيمة التحويل على وجه الدقة – وعدد القصور في الجنة وما تحويه من جوار وغلمان وخمور؛ أي إن الاهتمام هنا هو في واقع الأمر اهتمام واحدي مادي فعلاً، روحي اسمًا؛ أي إنها غيبية دون غيب ودون أعباء أخلاقية، وهو ما يشبه إلى حد ما الإيمان بالأطباق الطائرة! وهي ميتافيزيقا دون أخلاق”.

ويشير إلى أنه “في نهاية الأمر، يصبح الفرد المتدين أكثر أهمية من الدين وجماعة المؤمنين نفسها. ولذا، تصبح طريقة الوضوء (التي تضمن الخلاص الشخصي)، وتصبح طريقة تحية أهل الكتاب (الذين يهددون الذات)؛ أكثر أهمية من معرفة أسباب السعار الاستهلاكي في الوطن العربي (الذي يهدد الأمة بأسرها) ومن الوقوف ضد ظلم الحكام والحكومات؛ حيث تتحول جماهير الظلمة، من مسلمين ومسيحيين، إلى عبيد للحكام والحكومات بدلاً من العبودية لله وحده؛ ثم تتصاعد معدلات العلمنة ويصبح التدين مصدرًا للهدوء النفسي والسعادة الداخلية الفردية؛ ثم تتعمق الذاتية فتنفصل السعادة الداخلية (كهدف) عن الخالق، ويصبح البحث عن اللذة هو المطلق.

في هذه الرؤية الكاشفة للمسيري تتبدى عدة حقائق، أهمها- بجانب أن التدين أحد المجالات التي تحرفها العلمانية عن المسار- أن البعض ينزلق لهوة العلمانية بينما يبحث عن موطئ قدم له مع الدين، وليس ضد الدين! أي يسيء من حيث أراد أن يحسن!

وإذا أعدنا النظر لما عُرف بتجربة “الدعاة الجدد” في ضوء قراءة المسيري للعلمانية، فسيكون بإمكاننا أن نحصل على فهم أكثر دقة لهذه التجربة وما آلت إليه.

لقد كان لـ”الدعاة الجدد” دور مهم في اجتذاب عدد كبير لاسيما من الشباب لساحة الدين، وتعميق صلتهم به. وفي ظل انسداد الأفق السياسي فيما قبل “الربيع العربي” كان مفهومًا أن ينتشر الخطاب الوعظي والأخلاقي الذي ينشغل به هذا النوع من الدعاة؛ فهو الخطاب المتاح آنئذ، بجانب أنه يُعَد مقدمةً أساسية لما يراد من بناء سياسي واجتماعي أعلى أفقًا.

لكن جاء الربيع العربي ورفع من السقف المتاح والمأمول، حتى لدى بعض هؤلاء الدعاة أنفسهم؛ وشارك بعضهم في تأسيس أحزاب سياسية، في مصر.

ثم حدثت ارتدادات الربيع العربي لتكشف عيوب الخطاب الوعظي والأخلاقي؛ وصار من الواضح أن إصرار البعض عليه لم يكن عن قناعة بمرحلية التغيير، وإنما عن رغبة في تطويع المفاهيم، والتخديم على أوضاع سياسية معيّنةٍ غير جادة ولا راغبة في توسيع الأفق السياسي.

والأمر هكذا، فلم يكن غريبًا أن يصطف دعاة من أصحاب الخطاب الوعظي والأخلاقي مع الأنظمة؛ سواء في بداية الربيع العربي حيث يقاومون السقوط، أو في موجة الارتداد حيث يستعيدون الدور والمكانة!

وأصبحنا أمام مفارقةٍ (لا أخلاقية، ولا إسلامية) وهي الالتقاء في المحصِّلة بين خطابَيْ الدعاة الجدد والأنظمة الديكتاتورية، فكلاهما يحصران الإنسان في زاوية ضيقة، بعيدًا عن تيار الحياة المتدفق، ويمنعانه من الانفعال به والتأثير فيه؛ فلا يبقى لهذا الإنسان حينئذ إلا الخلاص الفردي، والتوجه للآخرة، والرضا بما يضفيه الإيمانُ عليه من لذة شعورية وانسجام نفسي!

وإذا كان المسيري في موسوعته يوضح أن خطاب الـ”ما بعد”- مثل ما بعد الحداثة– يعني سقوط الـ “ما قبل”؛ أي فشل الظاهرة وانتفاء مبررات وجودها([2])؛ فيحق لنا أن نقول: إن “ما بعد الدعاة الجدد” هو علمانية التدين، وإنْ بدا ذلك صادمًا للبعض، أو لا يريده؛ فما أتاحه الربيع العربي من سقف مفتوح يصعب معه الرجوع إلى خطاب ما قبل الربيع، وليس من الصواب الجمود على خطابٍ ما رغم تغير البيئة بصورة جذرية!

إذن، يحتاج الدعاة الجدد لمراجعةٍ شاملة، وتحديدٍ للوجهة من جديد، وفي أيِّ طرف يقفون، وأي خطاب ينتجون؛ وإلا فليس أمامهم إلا الاسترسالُ في خطاب علماني يتستر بغلالة رقيقة من الدين، أو البحثُ عن جمهور جديد (نتذكر إصدار عمرو خالد روايته “رافي بركات”).. وهنا سنكون أمام “جمهور جديد” وليس “دعاة جدد”!

 


([1]) العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، د. المسيري، الجزء الثاني، والنقل من صفحات 121، 122، 123، دار الشروق، ط1، 2002م.

([2]) يقول د. المسيري: “عالم ما بعد الحداثة هو عصر البعديات (وسقوط كل القَبْليات بسقوط الكل المتجاوز)؛ فهو عصر ما بعد التاريخ، وما بعد الإنسانية، وما بعد السببية، وما بعد المحاكاة، وما بعد الميتافيزيقا، وما بعد التفسير، وما بعد التجاوز. ولعلنا لو أحللنا البادئة «أنتي anti» بمعنى «ضد»، أو ربما عبارة «إند أوف of end» بمعنى «نهاية»، محل بادئة «بوست post» بمعنى «ما بعد»؛ لاتضح المعنى، ولأدركنا أن «ما بعد الحداثة» تعني في واقع الأمر: «نهاية التاريخ» و«نهاية الإنسانية» و«نهاية السببية» و«نهاية المحاكاة» و«نهاية الميتافيزيقا» و«نهاية التفسير». راجع “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، المسيري.