تمر اليوم (9 مارس) ذكرى وفاة عالمنا الجليل الشيخ محمد الغزالي، الذي ملأ الدنيا علماً وعملاً ودعوة إلى الله على بصيرة حتى لقي ربه مجاهداً  ودفن في أرض البقيع مع صحابة رسول الله كما أمل دائماً وتمنى. وقد ويتميز المشروع الفكري التجديدي للشيخ الغزالي، بارتكازه على أسس قرآنية راسخة، يمثل فهم الواقع أحد أهما ، ولهذا كانت نظراته في أوضاع أمتنا، نظرات ثاقبة متخطية حواجز الزمن حتى يوم الناس هذا.

وفي هذا المقال، نتعرض لقضية خطيرة، سببت وتسبب كوارث لأمتنا لا حصر لها على كافة مستوياتها، هي قضية: التكالب على الحكم، باعتباره وسيلة الشرف الأولى، وأداة التغيير الوحيدة لدى الكثيرين، وكيف تناولها شيخنا الراحل ولفت الأنظار إليها. وما تؤدي إليه تبني رؤية الشيخ، من تغيير في عقليات وتبديل لأولويات كثير من الأفراد والفرق والجماعات التي تحاول تغيير أوضاع أمتنا وتعجز كثيراً بسبب غفلتها عن هذه الآفة المهلكة.

أبصر ما تقول

في معرض تعليق الشيخ-رحمه الله-، على الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد القرشي قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال عمرو بن العاص: أبصر ما تقول، فقال المستورد: أقول سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمرو: إن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعة، إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة عند مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وأجبرهم لمسكين ويتيم وضعيف، خامسة حسنة: وأمنعهم من ظلم الملوك.

فنجد شيخنا، بنفاذ بصيرة مستمدة من بصر في كتاب الله لا يمل، وتفكر في آياته مستمر، وخبرة بعالمه العربي والإسلامي طويلة واعية، يلتقط الخيط الذي ألقاه الحديث ليوجه الأمة إلى مقارنة رائعة بين عالمي الإسلام والغرب، قائلاً:

“إن النزعة القبلية القديمة عندنا، أشعرتنا خطأ أن الشرف يأتي من مناصب الحكم وحدها.ومن ثم دار الكفاح حولها في مرارة وقسوة.ولو كان الفرد يدرك أنه يستطيع بلوغ القمم عن طرق أخرى غير رياسة العامة وإصدار الأوامر لاتجهت ملكاته إلى هذه الطرق الأخرى، فبرز فيها ونبغ وساد.

فقه الغربيون، هذا المنطق السديد وبنوا عليه حياتهم وأقاموا حضارتهم، فلم يصابوا من داخلهم بهذه الآفات التي أصبنا بها في حياتنا حضارتنا، لقد اتجهوا إلى العلم والأدب والصناعة والتجارة والزراعة، فكانوا في هذه الميادين الرحيبة ملوكا. واتسعت هذه الميادين لخواصها على كثرتهم فقل الصدام بينهم، ولا غرو، فالقرية لن يكون لها إلا عمدة واحد ولكن حاجتها لا تنتهي إلى الطبيب والحاسب والكاتب والاخصائيين في شئون العمران المتخلفة، فإذا سادت الجماعة فكرة أن الجاه في منصب العمدة فحسب، تفانت أسر كبيرة لنيله، أما إذا أدركت أن الشرف مقرون عرفاً وتقليداً بسائر الأعمال الأخرى توزعت عليها في غير جلبة، وذاك سر من أسرار التفاوت بين الشرق والغرب، ولا دخل للدين فيه.

ثم يعقب-رحمه الله-،متحسراً،على أحوالنا، قائلاً: آه لو انحلت هذه العقدة في مجتمعاتنا.إذن خلقت خلقا جديدا، ومادامت قائمة فسوف تترادف الفتن وتلاحق المصائب وتنفذ الجراح فما تلتئم إلا على دغل

فتكت بنا أمراض الرياء والشهوة

يشن عالمنا الكبير-رحمه الله-، حملة شعواء على هذه الآفة المهلكة التي سببت تخلف أمتنا في الماضي والحاضر، ويؤكد أن”الأمة العربية فتكت بها أمراض الرياء، وعلل التعاظم الأجوف والرغبة فى الظهور بالحق أو بالزور، ولا يمكن أن تنهض أمة مع هذه الأدواء الخسيسة. مشدداً على أن “الاستعمار يوم وضع يده على العالم الإسلامى من صب الأجيال الناشئة فى قوالب أخرى، نمت بعدها وهى تبحث عن الشهوات وتخلد إلى الأرض.في حين أن “التربية، التى ننشدها نحن المسلمين ليست بدعاً من التفكير الإنسانى الراشد، إنها صياغة الأجيال فى قوالب تجعلها صالحة لخدمة الحق وأداء ضرائبه، واحتقار الدنيا يوم يكون الاستمساك بها مضيعة للإيمان ومغاضبة الرحمن.

ويدعو شيخنا الراحل، الأمة إلى أمرين :

أولهما: البعد عن الأخطاء التي انحرفت بالأمة وأذهبت ريحها وأطمعت فيها عدوها.

والآخر: إعطاء صورة عملية للإسلام تعجب الرائين، وتمحو الشبهات القديمة وتنصف الوحي الإلهي.وأن ينصفوا الإسلام من أنفسهم حتى يستطيع هذا الدين الانطلاق في الأرض، وإسعاد البشرية، وتحقيق الرحمة العامة للعاملين.

ويطلب من المسلمين أن يطرحوا الأسمال العقلية والاجتماعية التي أزرت بهم، وحطت مكانتهم، مثل:

الحكم فردي يخنق الحرية، ويستبيح الحرمات.

القوانين تملك المال ولا تملك العدالة والرحمة.

البطالة عقلية تهمل العمل والفكر وتحقر نتائجها، وتؤخر العباقرة وتقدم التافهين..

العوائل همها في الحياة المتعة لا التربية، والفوضى الاجتماعية لا الأخلاق الدقيقة والتقاليد الزكية.

القصور علمي في المادة وما وراء المادة.. أي في شئون الدين والدنيا جميعاً.

الذاكرة مفقودة.. لا تستفيد من التجربة ولا تنتفع من عبر التاريخ.

الدعاة يتساءلون عن الصلاة مع دم البعوض في قمصانهم.. ولا يتساءلون عن مستقبل أُمة أُرخص دمها، حتى أصبح سفكه لا يثير جزعاً ولا فزعاً..

 في الصف الثاني

يقرر شيخنا الراحل، حقيقة حال أمتنا في تعاملها مع الحكم، باعتباره السبيل الوحيد تقريباً لنيل الشرف أو لتحقيق التغيير ، وينبهنا إلى الشرف الحقيقي والسبيل الأمثل للتغيير قائلاً:

“إن العالم الإسلامي اليوم بحاجة إلى الرواد، الذين يجمعون إلى الفقه وحسن الدراية التجربة الميدانية، ليضعوا أيدينا على مواطن الداء، ويحددوا بلسماً للمشكلات الأساسية ويرتبوا الاهتمامات.وإن قضايا كثيرة في تاريخنا المعاصر وفكرنا تحتاج إلى إعادة تقييم ونظر وتصنيف.وإن الجماهير الإسلامية في كل مكان تنتظر هؤلاء الرواد الصادقين للفكر والتنظير ليلقوا الأضواء الكاشفة على مواطن العمل والبناء،

وانطلاقاً من هذه الحقيقة التي لا ينكرها مخلص لأمته، يدخل إمامنا الراحل بأسلوبه السهل الممتنع، إلى قلب وعقل كل مسلم بهذا الحل البسيط والعملي والمقنع للتخلص من هذه الآفة التي أهلكت أمتنا قديماً وحديثاً قائلاً:

“في الصف الثاني مجالات هائلة لمن يريد أن يسدي للإسلام يدا..ومن أجل ذلك أطلب بإلحاح أن تنشغل الجماعات الإسلامية بترقية شئون الأمة في نطاق ما تقدر .وإننا بحاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود المجهولين، يعملون فى ألف ميدان، ويسدون ألف ألف ثغرة فهل يوجد من يكتفون بنظر الله إليهم، ويستغنون عن أنظار الناس؟

جهاز ذو نشاط مزدوج

ثم يتقدم إمامنا الراحل، بالحل خطوة أخرى للأمام، قائلاً، أن أمتنا “بحاجة إلى يقظة عامة تتناول أوضاعنا كلها، حتي نحسن الدفاع عن وجودنا ورسالتنا في عالم لا تسمع فيه إلا عواء الأقوياء. وهو يقترح أن يتكون جهاز ذو نشاط مزدوج، كلاهما يضارع الآخر في القدرة واليقظة سبيل تحقيق ينشغل بنشاطين رئيسيين:

النشاط الأول: يقوم على الأسس الآتية :

ا- سبر الارتقاء الثقافي والإحاطة بالآماد التي بلغها غيرنا حتى نعرف من نخاطب؟ وماذا نقول؟

ب- إدراك المستوى العمراني والصناعي والحضاري الذي يسود العالم من حولنا، فإن من الهزل أن تعرض الإسلام أمم متخلفة، ينظر إليها غيرها شزرا، ولا تستطيع أن تساند حقها بدعائم مادية أو علمية

ج- دراسة التيارات السياسية والقوى العسكرية التي حظي بها غير المسلمين، وتقدير ما نقدمه للأديان والمذاهب الأخرى من دعم، ووضع ذلك تحت أنظار المسئولين

النشاط الثاني: فهو داخلي يتحرك في دار الإسلام، ويقوم بما يأتي:

ا- محاربة الغش الثقافي والانحراف الفكري، اللذين أبعدا الأمة الإسلامية عن كتاب ربها وسنة نبيها، وجعلاها مشوهة للدين الحق، وأعجزها عن نصرته

ب- إعادة بناء الأمة الإسلامية على أساس أن الوحي حياة، وأن دراسة الكون أهم ينابيع الإيمان، وأن حسن استغلاله سلاح اقتصادي وعسكري خطير

ج- كرر القرآن، في أربعة مواضع السمات الأولى لرسالة محمد صلى اللله عليه وسلم، وهي: تلاوة آيات الله على أنها منهاج العمل، وتربية الأمة على الأخلاق المتينة والتقاليد الظاهرة-، وهذه هي التزكية التي لا نكاد نعي منها شيئاً طائلاً-، وتعلم الكتاب والحكمة.ونحن للأسف بعيدون عن الحكمة في أغلب شئوننا، ولا نرتبط بمعاني الكتاب وأهدافه.ولكي يكون انتماؤنا للإسلام واقعاً ملموساً، لابد من إبراز هذه السمات الثلاث مادياً ومعنوياً

د- غربلة التراث الإسلامي الذي آل إلينا في هذا العصر لاستبقاء ما يوافق الكتاب والسنة واستبعاد ما عداه.

وذلك الجهاز الذي أقترحه ينبغي أن يعمل بعيدا عن الأضواء(الصف الثاني والبعد عن العصبية) مكتفيا بنظر الله إليه، كما ينبغي أن يكون مساعداً لجميع الأجهزة الإسلامية القائمة..إنه جهاز راصد كشاف، يرقب العالم الإسلامي والعالم كله، وشغله الشاغل حراسة الرسالة الخاتمة وعلاج ما يساورها من عطب، أو يتهددها من كيد، ثم لفت الأجهزة الإسلامية الكثيرة كي تؤدي واجبها

رحم الله الإمام الغزالي، وألهمنا حسن الاستفادة من تراثه الفذ المتجدد على مر الزمن .