“وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد” [المستصفى: 4]

مقولة الغزالي مهدت لنا ما يستكشفه هذا المقال من منزلة علم أصول الفقه في تنمية القدرات العقلية والمدركات الفكرية لدى المسلم، وأبرزت على قلة كلماتها وظائف علم أصول الفقه بين سائر العلوم الشرعية المختلفة المنبثقة من نصوص الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بوصفه علم آلة يخلص إلى النصوص النقلية فيدقق فيها ويحررها لكي يصلح للاستدلال على تصرفات العباد،

كما أنه ينتهج بعض الوسائل العقلية السليمة حيال قيامه بتحرير النصوص والاستدلال بها، وتفسيرها بما يوافق الحاجة العارضة، ويحرض العقول على التبصرة والتفكير والتحري في النصوص الشرعية بالاستقصاء، والاستنباط، وإلحاق الأشباه والنظائر، واستقراء المصالح والعلل والمقاصد، فكان قواعد يعرف بها الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين، لذلك كان من أبدع ما أنتجه العقل المسلم.

ولإبراز جوانب مشرقة من هذا العلم الفكري الماتع نقرر بإيجاز سمات أصول الفقه من حيث ارتباطه بالتفكير الموضوعي الممنهج، وهدفه في تنمية العقل الاجتهادي بين يدي تفسير نصوص الوحي، وذلك قبل انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، ثم ندرج بعد ذلك إلى وظائف علم الأصول من حيث إمداده الفكر والعقل.

السمة الأولى – أصول الفقه فلسفة إسلامية أصيلة، فقد شاع القول في ربوع القرن التاسع عشر أن الفلسفة اليونانية هي أساس الفلسفة الإسلامية، كما يشيع في عصرنا حصر دائرة الفلسفة الإسلامية في علم المنطق، وأنها هي فلسفة الفلاسفة أمثال الكندي والفارابي وابن سينا .. الطائفة التي عرفت بـ(فلاسفة الإسلام) لما لديهم من اتصال مبكر بالفكر اليوناني، ووقع هذا الخطأ لأدعياء هذه المقولة من تقصيرهم في النظر والتحليل.

نقرأ للدكتور علي النشار في كتابه (تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام) ينقض منهج هذا المذهب بقوله: يحدد هذا المنهج تاريخ الفلسفة الإسلامية بانتقال العلم اليوناني، فلسفيا كان أو غير فلسفي، إلى العالم الإسلامي خلال حركة الترجمة المشهورة في العصر العباسي..!

وينفي هذه الدعوى برؤية يقدمها الشيخ مصطفى عبد الرازق في أوائل الأربعينات التي قامت على تلمس نشأة التفكير الفلسفي الإسلامي في كتابات المسلمين أنفسهم في فترة قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليونانية وقبل أن يتدارسوها دراسة وافية .. وقد وصف الدكتور النشار هذه الرؤية أنها تقرر ما كان لدى المسلمين من تفكير خالص صدروا فيه عن ذاتهم. وتفكير نسقي كان لهم فيه أيضا حظ الابتكار. وهذه الرؤية وجهت أنظار الباحثين إلى ناحية جديدة في الفكر الإسلامي، اعتبرها بعض الباحثين بعد ذلك، الناحية المعبرة عن الحضارة الإسلامية كلها[1].

وظهر من خلال هذه الرؤية أن علم أصول الفقه يتصل بالفلسفة الإسلامية مباشرة لا كما حصرت في علم الكلام، والتصوف الإسلامي، يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق: “وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملا لهما، فإن علم أصول الفقه المسمى أيضا علم أصول الأحكام ليس ضعيف الصلة بالفسلفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام”[2].

السمة الثانية – توفر فقه الاستنباط بين أهل العلم الأوائل، لم يكن علم استنباط الأحكام ومقايسة الأمور والاجتهاد في المسائل أمرا جديدا على الصحابة رضوان الله عليهم، والأجيال التي تلتهم في القرون الثلاثة الأول، بل انطلق هذا المنظور عندهم من زمن النبوة، حيث أقر النبي – صلى الله عليه وسلم – معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله حين قال: “”أجتهد رأيي ولا آلو”[3].

بل كان إلحاق النظير بالنظير، ومقايسة الأمور بالتعليل عرف القوم، يألفونه في جميع النوازل دون استنكاف أو تعنيف[4]، وقد عرض ابن القيم نماذج من اجتهاد هؤلاء الصحابة فقال: “وقد كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره”[5].

قال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل؛ فلا يجوز لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها[6].

كان علم أصول الفقه بالنسبة للمسلمين قانون وفلسفة التشريع يحرر عقولهم من الجمود، ويعززها على التفكير والاجتهاد

وإذا كان الاجتهاد بهذه الحالة التي يصورها كل من ابن عبد البر، والجويني في البرهان، وابن حزم، وابن القيم، وممن تتبع هذا الأمر إلى وقتنا المعاصر، ووقائع تاريخية تشهد لاجتهادات الصحابة في القضايا الكبرى – من قبيل الأممية – التي غيرت مجرى التاريخ، وصنفت تباعا على أنها من قبيل الاجماع حسب المصطلح المتعارف عليه بعد ذلك، فإنه بين يديه سيعترضنا سؤال كيف تمكن الصحابة في الصدر الأول من الاجتهاد واستنباط الأحكام ومقايسة الأمور، وأسس علم أول الفقه لما تكونت بعد، وكيف يتم قبول فقه لم يسبقه تأصيل ولا تقعيد؟

يجيب الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عن هذا التساؤل حين حصر أنواع العلوم والمعارف التي يتوقف عليها علم أصول الفقه المساعد على الاجتهاد في مباحث ثلاثة رئيسية:

أولا – مباحث الحكم الشرعي بقسميه التكليفي والوضعي، ومتعلقات ذلك. وهي تصور حقائق شرعية والقصد منها وإيضاح مسائلها والاطلاع على أسرار الشريعة الإسلامية.

ثانيا – مباحث كلامية: وهي التي تتعلق بعلم أصول الدين أو العقيدة، وموضوعها إثبات وحدانية الله ورسالات الرسل عامة، ونبينا خاصة صلى الله عليه وسلم وكان ما يصدر منه أو ينسب إليه يعتبر مصدرا تشريعيا. ثم اعتماد علم الأصول من جهة أخرى في قواعده على مبادئ كلامية كالبحث عن الدليل من حيث إفادته الظن واليقين، ومعرفة الدليل..

ثالثا – مباحث لغوية: حيث وردت نصوص الوحيين بلسان عربي مبين فكان ضروريا معرفة أساليب العرب ومراميها. فمثلا قاعدة الأمر للوجوب والنهي للتحريم لها جانبان: أحدهما لغوي والآخر شرعي.

فكان الأمر لطلب الفعل من حيث اللغة على وجه الجزم، والنهي طلب ترك الفعل على وجه الجزم كذلك، ومن جانب الشرع فإن الأمر يقتضي القيام بالفعل حيث يترتب الثواب على الفعل آجلا ، والمدح عاجلا، والنهي يقتضي العقوبة على الفعل آجلا، والذم عاجلا، وهو ما لا يعرف إلا عن طريق الشرع.

يقول أبو سليمان “فلما جاء دورهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم استجدت أمور وأحداث على المجتمع الإسلامي، فتكشف الواقع فيهم عن كفاءة في الاجتهاد، وقدرة على الاستنباط، وهذا ما شهد لهم به أئمة الأصول وأعلام الفقه.

يقول إمام الحرمين الجويني: “نحن نعلم قطعا أن الوقائع التي جرت فيها فتاوى علماء الصحابة وأقضيتهم تزيد على المنصوصات زيادة لا يحصرها عد ولا يحويها حد فإنهم كانوا قايسين في قريب من مائة سنة والوقائع تترى والنفوس إلى البحث طلعة وما سكتوا عن واقعة صائرين إلى أنه لا نص فيها والآيات والأخبار المشتملة على الأحكام نصا وظاهرا بالإضافة إلى الأقضية والفتاوى كغرفة من بحر لا ينزف.

وعلى قطع نعلم أنهم ما كانوا يحكمون بكل ما يعن لهم من غير ضبط وربط، وملاحظة قواعد متبعة عندهم وقد تواتر من شيمهم أنهم كانوا يطلبون حكم الواقعة من كتاب الله تعالى فإن لم يصادفوه فتشوا في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجدوها اشتوروا ورجعوا إلى الرأي”[7].

يتضح من هذا العرض المختصر أن فقه الاجتهاد أو الاستنباط كان يتوفر من الزمن المبكر في عصر النبوة والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم وهو الذي يشكل أسس الفكر الأصولي العلمية والمنهجية، فإن الفكر يسبق التكوين والتأسيس[8].

السمة الثالثة – الشافعي مؤسس منطق الفقه الإسلامي، ومن نتائج هذه الجهود المتعاقبة في فقه الاستنباط لدي الرعيل الأول وقبل اتصاله بالفلسفة اليونانية وضع الإمام الشافعي علم أصول الفقه كمادة علمية مستقلة في مصنف خاص، وكان قصده رسم مناهج البحث والاستنباط، لإحكام الاستدلالات، وكان سببا في وصف مترجميه بعد ذلك بفيلسوف الفقه.

يقول الإمام أحمد: الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه[9].

ويقارن فخر الدين الرازي نسبة أصول الفقه إلى الشافعي بالفراهيدي في علم العروض، وأرسطو إلى علم العقل، يقول: ” اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة (أرسطاطاليس) الحكيم إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، ذلك أن الناس كانوا قبل أرسطاطاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن لم يكن عندهم قانون ملخص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلي: قلما أفلح، فلما رأى أرسطاطاليس ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة، واستخرج علم المنطق، ووضع للخلق بسببه قانونا كليا يُرجَع إليه في معرفة تركيب الحدود والبراهين …

فكذلك هاهنا الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل الفقه ويعترضون ويستدلون، لكن ما كان لهم قانون كلي يُرجَع إليه في معرفة الدلائل الشرعية، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونا كليا، يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم أصول الفقه، كنسبة (أرسطاطليس) الحكيم إلى علم العقل”[10].

فكان علم أصول الفقه بالنسبة للمسلمين قانون وفلسفة التشريع يحرر عقولهم من الجمود، ويعززها على التفكير والاجتهاد، ولم يعلم قبل ذلك أن الشافعي انتسب إلى فلسفة اليونان، وإنما اعتمد في كتابه على ما تعاهده الجيل الأول والتابعون من بعدهم، فوضع مسالكهم في الاجتهاد في كتاب منظوم جامع لشتات المعارف والمبادئ في هذا المجال.


[1]  علي سامي النشار،  تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام (1/ 47).

[2]  مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية (59).

[3]  والحديث على جهالة في إسناده لأنه اشتمل على رجال غير مسمين فهم كما قال ابن القيم: أصحاب معاذ فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى؟ ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث؟ وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به. انظر: اعلام الموقعين (1/ 155).

[4]  وتشهد لذلك حادثة بني قريظة حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم الأحزاب: «لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدركهم وقت العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال آخرون: بل نصلي ولم يرد منا ذلك،  فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين.

فالطائفة الأولى تمسكت بالنص فلم يصل في الطريق، امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والطائفة الأخرى اجتهدت رأيها وتخوفت فوات الصلاة فصلت في الطريق في وقتها ثم أدركت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعنف أحدا منهما للاجتهاد المسوغ. ولعل الطائفة الثانية أصوب من التمسك بالظاهر، وهو ما اختاره ابن القيم.

قال بن القيم في الهدي ما حاصله كل من الفريقين مأجور بقصده إلا أن من صلى حاز الفضيلتين امتثال الأمر في الإسراع وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت ولا سيما ما في هذه الصلاة بعينها من الحث على المحافظة عليها وأن من فاتته حبط عمله وإنما لم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر ولأنهم اجتهدوا فأخروا لامتثالهم الأمر لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من اجتهاد الطائفة الأخرى. انظر: زاد المعاد (3/120)، وفتح الباري لابن حجر (7/ 410).

[5]  ابن القيم، اعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 155).

[6]  ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله (2/ 873).

[7]  عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، الفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية، (28).

[8]  المصدر السابق (37).

[9]  البيهقي، معرفة السنن والآثار (1/ 200).

[10]  فخر الدين الرازي، مناقب الإمام الشاافعي، تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ص (157).