يعد النقد الذاتي قيمة من أرقى القيم التي توصلت إليها الخبرة البشرية لبناء الذات وتقويمها، فالإنسان أدرى بنفسه وأخبر بتجربته، وحينما يكون صادقا مع نفسه فإنه سيقدم التوصيف الأدق والأمين، وسيضيف خبرة نافعة للتجربة الإنسانية، لكي لا يستمر الخطأ، ولا يضطر الآخرون لتكرار التجربة والوقوع في ذات الأخطاء التي وقع فيها الأسبقون..

إن ثقافة النقد الذاتي لا تعني القدرة على الاعتراف بالخطأ والاستفادة الذاتية منه فحسب، بل هي (أمانة مجتمعية) ينبغي تقديمها للمجتمع كخبرة مضافة ومعلومة نافعة لبناء التراكم المعرفي لدى الإنسان، شأنها شأن المعلومات (الخدمية) في الطب والهندسة والزراعة والصناعة… إلخ

إن حركة الإنسان فردا أو جماعة أو مؤسسة أو حكومة ستترك آثارها وتداعياتها في المحيط الإنساني الأوسع، ولذلك فالناس كل الناس معنيون بتقويم هذا الحراك بأي اسم جاء وتحت أي عنوان كان، فالأرض سفينتنا الكبيرة ونحن ركابها، والخرق الذي يحصل في موضع ما لا يؤثر على أهل ذلك الموضع فحسب، بل على السفينة كلها، ومن حق الناس في ضوء هذه الحقيقة أن يراقبوا كل حركة أو تجربة ويتنبئوا بنتائجها ومآلاتها، ولكن شتان بين أن يكون هذا النقد من الخارج فقط، وبين أن يكون مركبا بحركة لولبية بين الداخل والخارج عبر حوارات ومناظرات وتقارير علمية وموضوعية، إن هذه الطريقة هي الأقرب لأداء الأمانة، ولتجاوز ثقافة الاتهامات و(سوء الظن) والتي تقابلها عادة ثقافة (التبرير) والتكلف في الدفاع عن النفس، وبين هذه الثقافة وتلك تضيع الجهود وتعمّق الفجوات..

في (نكسة أحد) تلفت الصحابة ليجدوا سببا للنكسة، كثرة الكافرين؟ خيانة المنافقين؟ لكن القرآن وجههم إلى عمق الذات (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران:165]، لا تلتفتوا يمينا أو شمالا، فميدان النقد الأول هو الذات (أنفسكم) وهذا الموقف القرآني يؤكد أن (النقد الذاتي) ثقافة إسلامية قبل أن يكون ثقافة غربية، وقد ترسخت هذه الثقافة عبر مقولات (محاسبة النفس) و(حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)، لكن الأمانة العلمية تتطلب منا الاعتراف بأن هذه الثقافة في أمتنا الإسلامية كانت أقرب للنزعة (الصوفية) الفردية، ولم تأخذ بُعدها المطلوب في التجارب الجماعية والمؤسسية، مع أن آية (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وردت أساسا في العمل الجماعي وليس في العمل الفردي، وهذه إحدى الإشكاليات التربوية الخطيرة، فالمحرمات الكبيرة كالرياء والأنانية والشح والإعجاب بالرأي… إلخ كلها سحبت من مدلولاتها (الجماعية) إلى مدلولاتها (الفردية) مع أن وجود هذه الأمراض في الجماعات أخطر بكثير من وجودها في الأفراد، وهذا -لا شك- أحد مظاهر ذوبان الفرد وسحق شخصيته تحت (عجلة الجماعة).

إن القرارات الخطيرة والكبيرة عادة ما تتخذها الجماعات والمؤسسات والحكومات وليس الأفراد، والتربية التي تركّز قيمة المراجعة والمحاسبة في الأفراد هي تربية قاصرة وربما مشوّهة ولا يتوقع منها إلا النتائج المشوّهة أيضا، ومنها ربط الإخفاقات الجماعية بمواعظ فردية تنتهي بقول الخطباء والوعّاظ (ارجعوا إلى الله)، وهذا الرجوع غير قابل للقياس، وبالتالي سيتحوّل إلى قعر من (الجلد النفسي) لا قرار له، فلو انتهينا من تسجيل الخروقات الظاهرة فإن الخروقات الباطنة واتهام النوايا ليس له حد، مع أن الإسلام دين واقعي وهو لا يمكن أن يعلّق النصر والتمكين بمستوى (الربانية) أو الملائكية للمجتمع، والتاريخ يشهد أن الأمة الإسلامية التي توسّعت فتوحاتها الكبرى أيام الأمويين والعباسيين لم تكن بالمستوى المطلوب عند خطبائنا ودعاتنا اليوم، فلقد كانت المنافسات السياسية والخلافات الفكرية على أشدّها، وكذلك كانت المظالم التي تقع على الأفراد ومنهم العلماء كسعيد بن جبير وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل… إلخ وكانت مجالس اللهو والغناء أشهر من أن تنكر.

إن الذين يعلّقون نهضة الأمة وخلاصها بالبراءة من الذنوب وتكوين المجتمع الملائكي إنما يتعلقون بوهم، ويزيدون في الأمة روح اليأس، وهي مثالية لا أساس لها في الشرع، بل إن المجتمع الأول لم يخلُ من هذه الذنوب والخروقات، والضعف البشري أصل وليس استثناء، ولذلك جاء في الحديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) رواه مسلم.

إن العبرة بالتوجّه العام في الأمة وقياداتها ومؤسساتها وجماعاتها ومناهجها العملية، وهذا هو ما ينبغي تسليط الضوء عليه في المراجعة والتقويم والمحاسبة، وأما التركيز على (المحاسبة الفردية) فهو نوع من الالتفاف على أصل الداء، لاعتبارات نفسية وسياسية وفئوية كثيرة. إن التخوف من شماتة الأعداء أو نفرة الأصدقاء شائع في تبرير طمس روح المراجعة والمحاسبة، وقد تستخدم أساليب سياسية (غير أخلاقية) في مواجهة النقد، منها أن النقد يجعل الناقد في جبهة العدو، وهذه ثقافة شائعة لدى أغلب الجماعات العاملة إسلامية وغير إسلامية، جهادية أو سلمية، أما الحكومات فلها أساليبها الأخرى، وصار المفكر مشلول الحركة لا يتمكن من البوح برؤيته وتقويمه للتجارب المريرة التي تعصف بالأمة منذ قرن من الزمان أو يزيد.

إن القرآن الكريم كان يتابع الجماعة المؤمنة وقيادتها ويرصد أخطاءها البشرية، ويتنزل بهذا علنا ليعلمه المؤمنون والكافرون، الأصدقاء والأعداء، على السواء، فيقول مثلا: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ…) [آل عمران:152]، ويخاطب الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم-: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) [التوبة:43]، وقبل هذا بكثير أيام كانت سياط قريش تنال من المسلمين المستضعفين، يتنزل القرآن بقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى…).

إن خدمة الأعداء ليست بثقافة (المراجعة والتقويم) والمناصحة والمصارحة مهما كانت مؤلمة للنفس، وإنما هي بثقافة (التبرير) والتخدير، فالأولى ستعين على تجاوز الأخطاء بل الاستفادة منها، والثانية تسهم في تورّم الأخطاء تحت الجلد حتى تنفجر في لحظة ما دون الاستعداد لمحاصرتها أو معالجتها.

إن الخطأ الفردي يمكن تلافيه بالنصيحة الفردية والاتصال المباشر، ولذلك شاع في تراثنا مثل هذا الأدب الرفيع:

تعمدني النصيحة في انفرادي

وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نوع

من التوبيخ لا أرضى استماعه

أما الأخطاء الجماعية فيصعب حلها بالنصائح (السريّة) -كما يطالب البعض- ثم إن هذه الأخطاء وطرق معالجتها ليست ملكا شخصيا للقائد أو المسؤول، بل هي ملك الجماعة والأمة، وجزء من ثروتها الثقافية والخبراتية، ولذلك كان الرجل البسيط يحاسب أمير المؤمنين على ثوبه الطويل أمام الناس، ويقول له: والله لا سمع ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا الثوب الذي هو أطول من ثيابنا! وقد رأى عمر في هذا مصدر قوة له ولدولته، وليس سببا في التشكيك أو (زعزعة الثقة في القيادة) وهي تواجه فارس والروم .!