يمكن القول إن أغلب الصور التي تنقل عن تطبيق الشريعة مهما كانت نوايا (المطبّقين)، أقرب إلى تشويه الشريعة وليس إلى تطبيقها، وهي بحاجة إلى محاكمة (شرعية) جادة وشاملة، فالمسألة لم تعد أخطاء شخصية أو اجتهادات جزئية، بل هي ظاهرة خطيرة قد تنعكس بمرور الزمن إلى رأي عام رافض أو مشكك بصلاحية الشريعة ذاتها.

لو بدأنا مثلا بحادثة رجم المرأة الأفغانية، كيف ثبت هذا الحد؟ والزنا لا يثبت شرعا إلا بالإقرار، أو بشهادة أربعة رجال عدول يتفقون كلهم على رواية واحدة ودقيقة لعملية الزنا (كالميل في المكحلة) بتعبير الفقهاء! وهذا لا يحصل حتى في أكثر المجتمعات تحللا وفسادا، وعلى فرض حصوله في بيئة شاذّة فإن وجود أربعة رجال (عدول) في تلك البيئة هو أمر مستبعد، ولو حصل افتراضا فهو شبهة في الشهود تكفي لرد شهادتهم، والله يقول: (لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النور 13، أما الإقرار فهو إنما يعبّر عن حالة إيمانية عميقة لدى المذنب تجعله يطلب العقوبة ويسعد بها -كما حصل في قصة الغامدية- مع أن الإسلام لا يوجب ذلك، والفقهاء يرجحون الستر على طلب العقوبة، ونصّوا على أن المقرّ لو تراجع عن إقراره سقط عنه الحد، فهل كانت المرأة الأفغانية بهذا الفقه أو بهذا المستوى من الإيمان لتختار بنفسها الفضيحة بين الناس والرجم بالحجارة حتى الموت، مع أن الأمر فيه كل هذا المتسع؟!

الملاحظ أيضا أن هذا الشغف بمعاقبة (المذنبين) كثيرا ما يأتي مقترنا بذنوب من قبل (المطبّقين) قد تكون أشد بكثير من تلك الذنوب، وأذكر هنا حادثتين اثنتين:

الأولى من أفغانستان، وقد ذكرها لي أخي الأستاذ وضاح خنفر الإعلامي والمفكر المعروف، فقد كان مع فريق لقناة الجزيرة بصدد إعداد تقرير عن زراعة المخدرات في أفغانستان، وقد اختاروا منطقة في جلال آباد معروفة بزراعة الأفيون، قال: لما وصلنا المنطقة أحاط بنا بعض المسلحين وكادوا يقتلوننا ظنا منهم أن كاميراتنا هي أجهزة تضر بالأفيون! وأن (الكفار) قد بعثونا لتدمير المورد الأساس للجهاد! وقد جلس المسكين يكرر الشهادتين ويقرأ لهم القرآن ليثبت أنه مسلم، وصار يعتذر لهم عن حلقه للحيته لأنه فلسطيني واليهود في فلسطين يمنعون الفلسطينيين من المظاهر الإسلامية، حتى تمكن من كسب ودّهم وعطفهم، ثم تجرأ فسألهم: كيف أنتم مجاهدون وتزرعون المخدرات؟ فقالوا له: نحن نزرعها ونبيعها للكفار فنخدّرهم بها ثم نقتلهم بفلوسهم!

أما الثانية فكانت في العراق، وسأنقلها بالنص من شهادة أبي سليمان محمد الثبيتي العتيبي القاضي الشرعي لدولة العراق الإسلامية، في رسالته إلى شيوخ القاعدة في خراسان: (.. وسرقة أموال الناس باسم الدولة، ولقد شهدت بنفسي حوادث من هذه، منها ما قام به أمير سرايا الجهاد سابقاً -وهو نائب أمير المؤمنين حالياً أبو عبدالرحمن الفلاحي- حيث غنمت جماعته ستاً وعشرين شاحنة، وقيمة البضائع للشاحنة الواحدة دفتران ونصف عدا قيمة الشاحنة نفسها، فلما اشتكى صاحبها ووصلت لي شكواه استدعيت هذا الرجل فقال لي معتذراً عن هذه الأموال بأنها أموال للرافضة، ولم يُثبت لي ذلك، فلما أثبتنا أنها أموال سنّة قال لي نعم أموال سني، ولكن صاحبها عليه دين للدولة الإسلامية، فلما طالبته بإحصاء الدين وجدنا أن الدين لا يصل إلى قيمة شاحنة واحدة فضلاً عن ست وعشرين شاحنة، فقال لي هذا الرجل -وهو نائب أمير المؤمنين- لقد أخذت هذا المال تعزيراً، لأن عندي أمرا من أبي حمزة بأخذ أي أموال للتجار تذهب إلى بغداد، فسألت عن هذا الأمر فأنكره وقال: لم يصدر مني هذا، ثم قال لي ما نصه بالحرف الواحد: (يا شيخ أبا سليمان أنت قاضي عام الدولة، فلا تدخل في أي قضية حتى نحيلها نحن إليك، لكيلا تذهب هيبتك). ففهمت أن هذا هروب من مواجهة هذا الرجل.. علماً بأن هذا التاجر رجل معروف ويساعد الإخوة في تنظيم القاعدة سابقاً في تهريب مواد متفجرة وأجهزة تفجير عن بعد.. والكل يعرفه في الأنبار).

فانظر كيف يعاقبون رجلا مسكينا بتهمة (التدخين) ثم هم يزرعون المخدرات! ويقطعون يد شاب مسلم بتهمة السرقة، ونائب أمير المؤمنين عندهم يسرق ستا وعشرين شاحنة محملة من مسلم سنّي متعاون معهم! وحين يتجرأ عالم أو مفكر لنقد هذه الظاهرة وعزلها عن اسم الإسلام وشريعته، ينبري بعض المخدوعين والمغرر بهم لتصوير هذا النقد وكأنه طعن في الدين وانتقاص من الجهاد والمجاهدين، وهذا تأكيد لإلصاق هذا الشذوذ والانحراف بالدين نفسه، وهو ما ينطوي على مجازفة خطيرة بسمعة الإسلام ومقبوليته، خاصة إذا جاءت هذه الدفوع من شخصيات لها صبغة دينية أو شرعية. إن النقطة المنهجية الأولى التي ينبغي الاستناد إليها تكمن في تفكيك عبارة (تطبيق الشريعة)، فالشريعة شيء، والتطبيق شيء آخر، الشريعة وحي ودين، والتطبيق فعل بشري، المشرّع هو الله، والمطبّق هو الإنسان، وهذا يعني أننا ننقد التطبيق وقد نرفضه دون أن يؤثر هذا في ديننا وعقيدتنا، ومثل ذلك التفريق بين (الشريعة الإسلامية) و (الدولة الإسلامية)، فالدولة كيان بشري وليست دينا منزلا ولا وحيا مقدسا، وهذا الكيان إنما يقترب من الصواب بقدر قربه من الشريعة، لكنه ليس هو الشريعة، فمن اعترض على الدولة وأدائها حتى لو كانت دولة الخلافة الراشدة لا يعد معترضا على الشريعة، ولذلك كان توصيف الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لمن خرج عليه من المسلمين (إخواننا بغوا علينا)، فالبغي عليه شيء، والبغي على الإسلام شيء آخر، وإذا كان هذا بحق أمير المؤمنين ودولته الراشدة العادلة، فكيف بالمجاهيل ممن منحوا أنفسهم ألقاب الخلفاء والأمراء؟ وكيف بالمحاكم التي تقضي وتنفذ في الكهوف بأسماء وهمية وألقاب مستعارة؟

هناك الكثير ممن سجلوا هذه الملاحظات والخروقات الخطيرة، لكنه ما زال يظن أن نقده لهذه الظاهرة إنما يصبّ في خدمة العدو، والصحيح هو العكس، فـ (المجاهدون) قد دخلوا في صراعات داخلية طاحنة بسبب هذه الممارسات والتصورات المختلفة عن الشريعة، حتى ضمن المدرسة الواحدة، كما أن هذه الحركات خسرت الحاضنة الشعبية وأثارت فيها قدرا كبيرا من الشتات في الرأي والفوضى في التفكير وعدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، ولو قارنا مثلا بين أداء المقاومة العراقية قبل ظهور (الدولة الإسلامية) وبعده، لوجدنا حجم الكارثة التي أصابت الساحة المقاومة بالكامل، والشيء نفسه تكرر في المشهد السوري، ثم عادت الكرة إلى العراق من جديد، حيث انتفض السنّة بكل توجهاتهم لسنة كاملة ضد سياسات المالكي الطائفية، ثم لما قام المالكي باجتياح ساحة العزة والكرامة في الرمادي انتفض الناس بلا عنوان ولا حزب ولا لافتة، ثم حصلت الكارثة من جديد وفقدت الجماهير حماسها بعد إصرار (داعش) على رفع راياتها وإعلان ولاياتها وإماراتها، وهذا ما يفسّر خروج أغلب الفلوجيين عن فلوجتهم، وعزوف السامرائيين عن القتال بعد أن دارت رحاه ليوم كامل في أحيائهم وأزقتهم، فهل هناك خدمة للعدو أكثر من هذا؟