الطب النبوي” .. تعبير شائع، كثر مروجوه في هذا الزمن، وهو في أصل إطلاقه لدى الأئمة المتأخرين من علماء الحديث خاصة، يُراد به تلك الأحاديث الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل تتعلق بالطب: من علاج ودواء ووقاية ورقية ونحوها.

غير أنه بهذا اللفظ: “الطب النبوي” تعبير مستحدث – بحسب اطلاعي – في حدود القرن الرابع الهجري إذ صنف أبو بكر بن السني (364هـ) كتاب “الطب في الحديث” وصنف أبو عبيد بن الحسن الحراني (369هـ) كتاب “الطب النبوي” وتوالت المصنفات بعدئذ بهذا الاسم لأبي نعيم الأصبهاني (430هـ) وأبي العباس المستغفري (432هـ) وأبي القاسم النيسابوري (406هـ) وغيرهم وصولا إلى القرن الثامن والتاسع الهجريين إذ نجد مصنفات للذهبي (748هـ) وابن قيم الجوزية (751هـ) ثم السخاوي (902هـ) والسيوطي (911هـ) وغيرهم.

الطب في كتب الحديث الأصلية

وما لفت نظري أثناء التتبع والبحث أن الإمام مالكا (179هـ) صاحب الموطأ، وهو أول كتاب في الحديث الصحيح غير المجرد، لم يستعمل تسمية “الطب” أصلا، ولم يُفرد له كتابا في موطئه مع أنه سمى كتابا باسم “العين” وذكر فيه الأحاديث عن المعالجة من العين، والرقية والغسل بالماء من الحمى والطيَرَة، وأورد أحاديث عن الطاعون في كتاب “الجامع”، وهذه كلها من مفردات ما سُمي لاحقا بـ “الطب النبوي”.

كما أن الأئمة:البخاري وأبا داود وابن ماجه خصصوا كتابا أسموه “كتاب الطب” وذكروا فيه تلك الأحاديث المتصلة بالوقاية والعلاج وبعض الأدوية. في حين أن مسلما (261هـ) حصر كل مفردات ما سمي بالطب النبوي تحت كتاب “السلام”، وإن كان جعل ضمنه بابا سماه “الطب والمرض والرقى” وإلى جانبه أبواب أخرى عن السم والسحر والرقية والطيرة وغيرها. أما الترمذي (279هـ) فجعل عنوان الكتاب “الطب عن رسول الله”.

والسؤال الآن: هل لهذا معنى؟

إنه من المقرر أن أئمة الحديث كانوا يدققون في عنونة كتبهم وأبوابها، وأن فقه كثير منهم وآراءه يُستنبط من منهجه في التبويب والتصنيف. ومما سبق يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

– أنه وردت أحاديث نبوية في شئون العلاج والتداوي ونحوهما أدرجها المحدثون تحت عنوان جامع، كسائر الأحاديث حينما ساد التصنيف على الأبواب “الموضوعات”. فظهرت تسمية كتاب “الطب” كرابط جامع لجملة الأحاديث تلك.

– أن عدم اطراد تسمية واحدة في تلك الكتب، والتي هي مصادر رئيسية للحديث الشريف يعني أنها كانت مسألة اجتهادية خاضعة لاعتبارات “فنية” تتعلق بترتيب الأحاديث لا غير. ومن هنا كان إفراد التسمية بـ “الطب” فقط.

– أن هذا الجمع للأحاديث المتعلقة بشئون يجمعها اسم “الطب” شأنه شأن باقي الأحاديث من أنه تحقق فيه شرط صاحب الكتاب الذي جمعها: إن كان اشترط فيها الصحة فهي صحيحة لديه، أو كان التزم أن يجمع ما هو “مقبول” من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، وكان منها تلك الأقوال التي تتعلق بشأن الطب.

لكن تبقى مسألتان على غاية الأهمية هنا فيما يتعلق بجملة الأحاديث كلها: في الطب وغيره، وهما:

الأولى: كيفية الاستدلال بهذه الأحاديث، وإطار العمل بها، فليس كل ما صح يُعمل به، كما هو مقرر في علم أصول الفقه، فقد صحت أحاديث: العمل على خلافها، وبعضهم جمع الأحاديث التي لم يفتِ بها الفقهاء.

والثانية: وهي فَرْز الأحاديث بالنسبة لتعدد وتركيب شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ووظائفه المقررة، فمنها ما يصدر على صفة النبوة والتبليغ والفتيا فمصدره الوحي وهو داخل لا شك في الشرعيات، ومنها ما يصدر على صفة الإمامة/السياسة، والقضاء وما يصدر عنه بوصفه محمدا الإنسان الذي يكتسب خبراته وتجاربه الحياتية من محيطه الاجتماعي وبيئته الثقافية وهذا لا مدخل فيه للوحي على التفصيل، وإن كان يبقى مؤطرا بإطار عام هو شخصية النبوة ورفعتها.

– أن تسمية الإمام الترمذي “الطب عن رسول الله” تسمية دقيقة لا تخرج عما ذكرت من أن هذا الكتاب يلم شمل الأحاديث التي وردت عن رسول الله في شأن الطب. ولكن يبقى بعد ذلك البحث في المسألتين السابقتين. في حين أن تسمية “الطب النبوي” التي استُحدثت لاحقا كانت قد حسمت الموقف من تلك الأحاديث وأن كل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم هو من قبيل الشرع، بما فيه أحاديث الطب. وهذا رأي يخالفه المحققون من العلماء.

الوعي بالطب وحدوده

وينبغي أن نشير إلى أن تعبير “الطب النبوي” لا نجده – بعد البحث – شائعا في كتب الفقه، ولا في كتب شروح الحديث. فالوعي الفقهي الكلي لمسألة الطب في تلك الأعصر المتقدمة كان منحصرا في إطار بحث جواز التداوي، وأنه لا يُرتب أي إثم شرعي، كما لا يُعكر صفاء التوكل على الله وتوحيده، وهذه النقاشات نجدها في كتب شروح الحديث، بل وفي كتب الطب النبوي نفسها كما لدى الإمام الذهبي مثلا. وفي هذا يقول الإمام بدر الدين العيني وهو أحد شراح صحيح البخاري: “فيه إباحة التداوي وجواز الطب، وهو رد على الصوفية في أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته وهو خلاف ما أباحه الشارع”. بل إن الأزرقي يحتد في الدفاع عن الطب وأن له منافعَ في مقدمة كتابه “تسهيل المنافع”!.

ونجد الجدل في هل التداوي ينافي التوكل؟ في كتب ابن القيم وابن حجر، بل إن الفقهاء اختلفوا في حكم التداوي:فقال الشافعية بسنيته لا بوجوبه، قالوا: لأن نفعه غير مقطوع به! وقال بعض الفقهاء: “ترك التداوي لِقَويّ التوكل أفضل”، ومن هؤلاء النووي (676هـ).

بل نجد في موطأ الإمام مالك – رحمه الله – ‏أن رجلا في زمان رسول الله‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏أصابه جرح فاحتقن الجرحُ الدمَ، وأن الرجل دعا رجلين من ‏بني أنمار‏ ‏فنظرا إليه فزعما أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏قال لهما: أيكما أَطَب؟ فقالا: ‏أوفي الطب خير يا رسول الله؟! فقال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏أنزل الدواء الذي أنزل ‏الأدواء. فقد استنكر الرجلان أن يكون في الطب خير!، والنبي صلى الله عليه وسلم يسألهما: أيهما أمهر في صناعة الطب؟ وهي صناعة كانت في عصره، ولذلك قال ابن خلدون في مقدمته: “والطب المنقول في الشرعيات “أي النبوي” من هذا القبيل (أي تجاربي)، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب.

هكذا نجد أن الوعي في ذلك الزمن كان في حدود جواز التداوي، وأن الطب له منافع، وعلى هذا المستوى دار الجدل ابتداء! ففي القرن الهجري الأول إلى منتصف القرن الثاني لم يبلغ الطب عند العرب – كما يقول إدوارد فنديك – “رتبة العلم المتقن، بل اقتصر على بعض المعلومات المكتسبة بالاختبار. إلا أن الأمم المجاورة للعرب كانت على درجة عليا من العمران والتمدن ولا سيما في علوم الطب، ولذلك كان الأفراد القليلون من العرب يقتبسون منهم شيئا من المعلومات الطبية ويأتون بها إلى الأوطان. ومما رغبهم على اتباع هذه الخطة الأحاديث المروية عن صاحب الشريعة الإسلامية في تعاطي بعض العلاجات”.

الطب: نهضته وعلاقته الفلسفة

وإن ثبت أن تعبير “الطب النبوي” إنما شاع في القرن الرابع الهجري، فربما يكون لذلك دلالة؛ إذ إن هذا القرن شهد نهضة علم الطب على يد الإمام الرازي (313 هـ) صاحب كتاب الحاوي، وأمثاله، وذلك بعد أن أخذ الخلفاء في القرنين الثاني والثالث يهتمون بتنشيط العلوم، ولا سيما الطب، فاستدعوا إلى بلاطهم المعلمين والمهرة من أهل هذه الصناعة، وبذلوا العطايا لمهرة النقلة لترجمة المصنفات اليونانية الطبية إلى العربية، وفي عهد المنصور العباسي 148هـ اتصلوا بمدرسة جنديسابور التي استدعى المنصور أحد أطبائها – وهو جورجيس بن بختيشوع – لمعالجته من سوء هضم، وحظي بمكانة لدى الخليفة بعد معالجته، وانتقلت المدرسة إلى بغداد وكان هذا الطبيب من أبرز المترجمين لكتب الطب بعدها، إلى جانب حنين بن إسحاق وغيره. فكان الطب اليوناني هو الأساس الذي بنى عليه أطباء الإسلام علم الطب.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أنه غالبا ما كان يتصل الطب بالفلسفة في تلك العصور، بل عد الطب فرعا من فروع الطبيعيات التي هي فرع من فروع الفلسفة. يقول ابن خلدون: “ومن فروع الطبيعيات: صناعة الطب”. كما أن عددا من أساطين الطب كانوا فلاسفة، سواء من اليونان أم المسلمين. حتى إن ابن سينا في مقدمة كتابه “القانون” يشير إلى أن الطبيب في طبه إنما يحتاج إلى البرهان بوصفه فيلسوفا لا طبيبا.

هذا الجو الذي أشرنا إلى طرف منه، هو ما ساعد على تلك النهضة الطبية في صدر الإسلام، دون توقف عند ملة الطبيب أو الطب ومصدره، حتى إن ابن رشد في فصل المقال يقول: “يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، سواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك لنا في الملة، فإن الآلة التي تصح بها التذكية ليس يُعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة”.

بل إن الملاحِظ الدقيق لبعض مصنفات الطب النبوي يجد أنها متأثرة في ترتيبها بكتبِ أمثال ابن سينا (428هـ) في كتابه الشهير بالقانون، والذي لا يمت إلى الطب النبوي بصلة، فهو حصيلة تراكم معرفي لطب من سبقه وطب اليونان، فابن القيم مثلا تحدث عن المرض وأقسامه والعلاج والتداوي، ثم عن العلاج بالأدوية الطبيعية، ثم عن هديه صلى الله عليه وسلم في علاج أمراض مخصوصة، ثم ذكر شيئا من الأدوية والأغذية المفردة. أما كتاب السيوطي فهو مرتب على ثلاثة فنون: الأول في قواعد الطب، والثاني في الأدوية والأغذية، والثالث في علاج الأمراض. ثم لنتأمل تصنيف القانون لابن سينا (428هـ) لنجد: الأمور الكلية، الأدوية المفردة، الأمراض الجزئية، الأمراض التي لا تختص بعضو، الأدوية المركبة.

أضف إلى ذلك أنه شتان بين كتاب القانون لابن سينا الذي عُد فتحا في الطب كعلم له كلياته وجزئياته التفصيلية الشاملة، حتى كان المصدر الرئيسي لمهنة الطب، وبين كتب ما يسمى بالطب النبوي، والتي لا ترقى إلى مستوى “العلم” الشامل، بل هي شذرات من هناك وهناك، وهو في غالبه يدور حول توجيهات عامة، فهو لا يتضمن نظرية طبية محددة حتى يسمى علما، وإن كان حاجي خليفة قد بوب له في كتابه “كشف الظنون” بقوله: “علم طب النبي عليه الصلاة والسلام” فإن ذلك لا ينطبق على العلم بمعناه الاصطلاحي، بل على المعنى البسيط الذي اشتمل عليه التصنيف، فإنه ذكر فيه مصنفات أبي نعيم وغيره ممن تلاه. وهو ما أكده طاش كبري زاده في مفتاح السعادة فقال: “علم طب النبي صلى الله عليه وسلم وهو علم باحث عن الأحاديث النبوية الواردة في طب المرضى.

طب المحدثين.. وطب اليونان!

ثمة ملحوظة مهمة هنا ينبغي ذكرها، والبناء عليها، وهي أن الانشغال بما عرف بالطب النبوي هو انشغال حديثي بالدرجة الأولى؛ فهو بالأصل باب من أبواب الحديث، ومن هنا كان عامة المصنفين فيه من المحدثين. فطريقة المحدثين العناية بكل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشأنهمُ الغالبُ أن يعتبروا كل ذلك شرعا، ومن هنا لا يبدو غريبا أن يقول ابن القيم: “طب النبي متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة”، فهذا وعي حديثي بامتياز، ثم لنتأمل بعد ذلك الوعي الفقهي السابق الذي يجادل على مستوى جواز التداوي وحكمه، بل إن الصارف للشافعية عن القول بوجوب التداوي هو عدم تيقن نفع الدواء الذي يقول ابن القيم إنه قطعي متيقن! وكذلك لنتأمل القول بأن ترك التداوي أفضل، بمقابلة القول بطب إلهي ينافي تعاطيه قوة توكل المؤمن! والوعي الحديثي والفقهي يلتقيان على مستوى الرؤية عند أن الطب والعلاج تَدَخلٌ في جسم الإنسان، ومن هنا كان الخوض في مسألة جواز العلاج وعدمه وفي الطب النبوي، على اعتبار أن هذا تدخل مبني على ما هو شرعي أتت به الأحاديث.

ثم لنتأمل هذه الملحوظات كلها، مضمومة إلى الإشارة السابقة عن نشأة الطب كفرع من فروع الطبيعيات وهي فرع من فروع الفلسفة، وازدهار علم الطب مع حركة الترجمة التي شملت كتب الفلسفة اليونانية والطب في العصر العباسي. كل هذا يعني أن هذه الحركة تمت بمعزل عن هذا الوعي الفقهي والحديثي معا، ومع ذلك نجد أن كتب شروح الحديث أفادت من الطب اليوناني فاعتمدت نظرية أبقراط في الأخلاط والأمزجة كما اعتمدت النظرية اليونانية القائلة بالعناصر الأربعة: النار والهواء والماء والتراب، ومن هنا تأتي تعبيرات مثل الحار والبارد والرطب واليابس في كتب “الطب النبوي” وشروح الحديث.

إلى هنا لا يبدو أن ثمة حساسية تجاه النقل والإفادة من الطب اليوناني، فمع وجود كتب “الطب النبوي” ومع الجدل حول التداوي وهل ينافي التوكل؟ لم أجد جدلا حول وجوب اعتماد الطب النبوي ونبذ الطب اليوناني مثلا، ولا جدلا حول علم الطب النبوي بمقابل علم الطب اليوناني، بل كما قلنا حدث تداخل بينهما. وكان هنالك أطباء من ملل شتى، بل قال إدوارد فنديك: “إن السواد الأعظم من رجال الطب من 150هـ حتى 300هـ كانوا من النصارى“. وقد أفرد ابن أبي أصيبعة “طبقات الأطباء” باعتبار الطب إرثا إنسانيا فذكر الأطباء من اليونانيين والإسكندرانيين ومن كانوا في أول ظهور الإسلام، ومن السريانيين والأطباء النقلة “المترجمين” وأطباء الجزيرة العربية، والمغرب والهند ومصر والشام.

هذا كله يعني أن كلام ابن رشد حين تحدث عن إسقاط الاعتبار بالملة، مقابل اعتبار النفع والصحة، كان له مصداق واقعي في تاريخ الحضارة الإسلامية ومفاعيلها. في حين أن الفصل التام الذي يحدث الآن، بالحديث عن طب غربي، وآخر إسلامي، وثالث نبوي، والتمحور حول تحصينات ودفاعات هوياتية في مقابل اضطراب علاقتنا مع الغرب في العقود الأخيرة، وفي سياق رحلة الأسلمة وابتذالاتها من قبل العديد من المتحمسين للإسلام، هذا كله يعني أن الوضع الإسلامي ليس بعافية.