في ساعات الإنتظار الطويل في المطارات التي باتت تبتلع المدن بحجمها وتعقيداتها الأمنية واللوجستية، تضطر لأن تستسلم لأفكارك وصمت وحدتك. فمنذ أن وضبت أمتعتي على عجل ذات مساءٍ تحضيراً للعودة إلى لبنان بعد ان تلقيت الخبر الذي كنت أخشى سماعه، خبر وفاة أحد أقاربي المقربين في حياتي، وفي خاطري فكرة واحدة تلجّ عليّ وهي فكرة الموت ولغزه الغامض وعلاقته بالحياة التي نحيا او التي نعتقد أننا نحياها.

وسوف يبقى اللغز مجهولاً إلى أن تحين ساعة الحقيقة، وربما لن تكون ساعةً للحقيقة التامة بل ربما ستفتح أبواباً جديدة للمعرفة وطرقاً أخرى لـ “حيوات” جديدة، فمنذ أن تكّون وعيي الفكري وتسكنني فكرة الحياة والموت واللغز الغريب الذي يجمعهما في جدلية فلسفية ووجودية. فإذا أردت معرفة ماهية الموت عليك أن تبحث في خبايا الحياة التي نعيش واسرارها. فالموت والحياة وجهان لعملة واحدة ألا وهي “الوجود”.

وجودنا هو حياتنا وموتنا في آن، والموت قد لا يكون نهاية الحياة بل هو مرحلة في سلسلة مترابطة لا نهائية، وقد يكون بحد ذاته حياة دون أن نعي ذلك. والحياة قد تكون هي نفسها الموت في شكل آخر. فلم يأت أحد لخبرنا عما يوجد بعد ذلك اللغز الرهيب الذي ينتهي ظاهرياً عند بياض الأكفان وأبواب القبور. وتحضرني هنا مقولة أحد المفكرين والسياسيين اللبنانيين المخضرمين كمال جنبلاط: “أموت أو لا أموت فلا أبالي، فهذا العمر من نسج الخيال.”

في بعض المعتقدات الدينية، الموت يعني إنتقال الروح البشرية إلى جوار الله بمحبة وتسامح وصفاء وغفران عما اقترفته من ذنوب. وعند آخرين فإن الموت هو ساعة الحساب بين جنة ونعيم أو جهنّم وبئس المصير. ويبقى أن بعض المجتمعات والمذاهب الدينية تؤمن بإنتقال الروح بعد الموت إلى أجساد أخرى إما تناسخاً أو تقمصاً لكي تمر بكافة مراحل الحياة وأدوارها وتتطهر من كل الشوائب للإرتقاء إلى مرحلة الكمال حيث الله أو النفس الكلية أو العقل الكلي، وما الإنسان سوى جزءاً من تلك النفس بحسب المعتقدات الفلسفية اليونانية القديمة التي عبر عنها كبار الفلاسفة كأفلاطون وأرسطو وغيرهما.

لذلك ما علينا إلا أن نتقبل الموت بفرح وسلام داخلي وإيمان بأنه المكمّل لمراحل حياتنا، كما نحن نقبل دوماً على الحياة بإيجابية وتفاؤل وأمل لا ينضب. فالحياة التي نحيا لا بد أن تُستكمل بالموت لكي نعي مغزاها. فكما جاء في الأثر  : “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.”

ولعل خير ما يختم به الحديث كلام الله تعالى في القرآن الكريم “كلّ نفس ذائقة الموت وإنما تُوَفّون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاعُ الغرور”. (سورة آل عمران – الآية 185).