تخيل معي عزيزي القارئ ماذا لو أن خلايا أجسامنا استمرت بالتكاثر والإنقسام من غير أن تخضع لسيطرة او نظام . ما الذي سوف يحدث وكيف سيكون تركيب الجسم البشري بعد سبعين عام؟

فرضياً، سيتراكم أكثر من 2000 كيلوغرام من نخاع العظم والعقد اللمفاوية مع أمعاء طويلة ممتدة الى 20 كيلو متر بالإضافة إلى أنسجة وأعضاء عملاقة غير متناسقة. لكن روعة الخلق وإبداع الخالق لم تدع مجالاً للمصادفات العمياء والفرضيات العرجاء.

ففي كل يوم تموت حوالي 50-70 مليار خلية في جسم الانسان البالغ لكي تحفظ هذا التوازن الرائع في عملية تسمى (الموت الخلوي المبرمج). كانت الخلية في السابق توصف بأنها مادة بسيطة كما عبر عنها أحد أعمدة نظرية ألتطور ألفيلسوف الألماني( إرنست هيكل) على انها ” بالون بسيط ممتليء بمادة هلامية”. تعلمنا في المدارس ونحن صغار بأن الخلية هي وحدة البناء والوظيفة في الكائنات الحية، ولم أُدرك معنى هذا الكلام إلا بعد سنوات عديدة في مرحلة الدكتوراة وأنا أتفحص الخلايا تحت المجهر الالكتروني وأدرس خصائصها الفسيولوجية المعقدة، والحقيقة أني كلما تعمقت أكثر كلما زادت حيرتي أكثر.

ولعل الوصف الدقيق لعالم الأحياء (مايكل دانتون) زاد الأمر تعقيداً عندما وصف الخلية في كتابه (التطور: نظرية في أزمة): “لكي نفهم حقيقة الحياة على النحو الذي كشفه علم الأحياء الجزيئي ، يجب علينا أن نكبّر الخلية ألف مليون مرة حتى يبلغ قطرها 20 كيلومتراً وتشبه منطاداً عملاقاً، بحيث تستطيع أن تغطي مدينة مثل لندن أو نيويورك. ما سنراه عندئذ هو جسمٌ يتّسمُ بالتعقيد والقدرة على التكيف بشكل غير مسبوق. وسنرى على سطح الخلية ملايين الفتحات مثل الفتحات الجانبية لسفينة فضاء ضخمة، تنفتح وتنغلق لتسمح لمجرى متواصل من المواد أن ينساب دخولاً وخروجاً. وإذا تسنى لنا دخول إحدى هذه الفتحات سنجد أنفسنا في عالم من التكنولوجيا المتميزة والتعقيد الفائق”.

وفي ظل هذا التيار المتجدد من التصورات والأفكار, يعتبر علم الخلية اليوم احد أهم فروع علم الأحياء وأكثرها تشويقاً وغموضاً. فداخل كل خلية حية من الظواهر المعقدة والتصاميم الجميلة ما يصل الى درجة لا يستوعب حقيقتها العقل البشري. يتكون جسم الإنسان من منظومة خلايا هائلة تقدر بحوالي 37 ترليون خلية تُصنفإ 206 نوع من أنواع الخلايا موزعةً على الأعضاء حسب الحاجة والوظيفة.

يحافظ جسم الإنسان على نسق معين ومتوازن بين إنتاج وموت الخلايا من خلال ظاهرة الموت المبرمج او (المقدر) للخلايا.

استخدم العالم الاسترالي(جون كير) مصطلح الموت الخلوي المبرمج لأول مرة سنة 1972 واصفاً سلسلة من الاحداث المظهرية لموت الخلية ومنذ ذلك الحين توسع الاهتمام بهذا المجال حتى اصبح وسيلة لدراسة وعلاج امراض السرطان وإعادة ترميم الانسجة.

وقد تم نشر أكثر من 4000 ورقة علمية في مختلف المجلات العالمية حول هذا الموضوع.

تتجلى عملية الموت المبرمج للخلايا في مظاهرها الشكلية ومراحلها “البايوكيمياوية” لمشاهد واطوار متعدده في حياتنا اليومية. ففي مرحلة الأجنة تساعد ظاهرة الموت الخلوي المبرمج على إزالة الانسجة والخلايا الزائدة من اصابع اليدين والرجلين قبل ظهورها بالشكل النهائي المعروف. كذلك فإنها تساهم في إزالة الخلايا المتراكمة بين الخلايا العصبية في الدماغ لتسهيل عمليات التواصل وتناقل الاشارات فيما بينها.

كما وأصبح الموت الخلوي المبرمج هو وسيلة تستهدف الخلايا السرطانية وتحفيزها على اختيار مسار الموت المبرمج الذي عادة ما يكون خاليا من أعراض جانبية لأن الخلية تنكمش وتنسحب عن جارتها بدون ان تسبب اي تلف في المحيط.

وعلى العكس من الوجه الآخر لموت الخلية والذي يعرف بالموت التنخري ويحدث هذا النوع عندما تتعرض الخلية لجرح فيزيائي نتيجة عوامل خارجية أو نقص الاوكسجين والذي يؤدي الى انتفاخ مكونات الخلية الحية وعلى وجه الخصوص المايتوكندريا (مولدات الطاقة الخلوية) فتتمزق الخلية بالكامل.

وتحدث هذه التأثيرات لأن الإصابة تمنع الخلية من ضبط التوازن الخاص بسائلها وأيوناتها التي تضخ عادة خارج الخلية، لكنها في حالة الإصابة تتدفق إلى داخل الخلية مؤدية الى الإلتهاب الخلوي والذي بدوره يحفز من تكوين المراحل الأولية للخلايا السرطانية.

إن عجز الخلايا عن اتخاذ قرار الموت المبرمج في الوقت المناسب يؤدي إلى حدوث مجموعة أمراض خطيرة مثل: تآكل الأعصاب، وتشوهات الجنين والسرطان، وأمراض المناعة الذاتية.

وهنا تجدر الإشارة الى ان السلوك الواعي لدى الخلية لم يتكون بالصدفة، بل هو مسار معقد له أجلٌ مسمى، ومتى ما شعرت الخلية بأنها تشكل تهديداً على سلامة الكائن الحي أو أصيبت بعدوى فإنها تختار طريقها لتحافظ على سلامة الجسد .

يركز الكثير من العلماء في أبحاثهم اليوم على حل بعض الالغاز والشفرات الخلوية لمعرفة كيف ومتى تماما تَقْتُل الخلايا نفسها، وما زالت هناك أسئلة كثيرة تفتقد التفسير، فتبارك الله أحسن الخالقين.