أحياناً تدخل إلى مجلس، أو تقرأ رسالة أو تغريدة، فتجد مخالفة ما أو كذباً أو خطأ مقصوداً أو غير مقصود، لا سيما الأحاديث المكذوبة عن الرسول – وما أكثرها -، والمفاهيم والمعتقدات الخاطئة، والقصص المفبركة عن هذه الشخصية الإسلامية أو تلك.. وأنت – على انشغالك بأمر ما – تراك تنبري للنصح الطيب والنقاش الهادىء من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عسى وعلّ – إن أخلصتَ النية و وُفقت في الطرح – يكون لكلامك وقعاً وصدىً في قلوب الناس وعقولهم وأفكارهم وتوجهاتهم.. وهذا ما أعتبره يدخل في مفهوم “عبادة الوقت”.

هل تعرف ما هي عبادة الوقت؟

أقصد العبادة التي لها الأولوية والمطلوبة منك في هذا الوقت بالتحديد؛ فمع كثرة الأعمال الصالحة التي يُثاب المرء عليها يجب أن يعرف الإنسان متى يكون عمل معين مُقدّم على عمل آخر، في حين يتقدم الأخيرعليه إذا اختلف الوقت.

فمثلاً، أثناء وجودك في العمل (في المدرسة، في المستشفى، في المصنع، في السوق، في الحقل، في المختبر، في الدائرة الحكومية..) يكون إتقانك لعملك وخدمتك للناس هو أفضل العبادات عند الله، وحين يؤذَّن

للصلاة يكون التوجّه إليها وإقامتها هو أفضل العبادات، بل إنك إن رأيت أحد المصلّين بجانبك قد أُغشيَ عليه ويحتاج نجدتك فإنك تقطع صلاتك – وإن كانت فريضة – حتى تُنقذه، وهذا هو مفهوم أن خير الأعمال هي أحبها إلى الله في ذلك الوقت.

تخيّل معي أنك الآن تجلس تقرأ القرآن بخشوع فيُدق بابك، وإذا بجارك المسيحي – مثلاً – قد جاءك ضيفاً. أيهما أفضل: أن تتابع قراءة القرآن أو أن تستقبل جارك المسيحي وتُكرمه؟

تخيّلت الموقف؟!

تُـقـبِّل المصحف وتقوم إلى أداء حقوق جارك وإكرام ضيفك، هذه هي عبادتك الآن! هذا هو دين الاسلام، دين الفطرة الإنسانية السليمة.

موقف آخر: طالب عنده امتحان غداً – مثلاً – يريد أن يذهب إلى المسجد ليستفيد من محاضرة قيِّمة تقام فيه، وليتقرب الى الله ﷻ بالعلم الشرعي..

نقول لهذا الطالب: عبادة الوقت هذا هي دراستك لإمتحان الغد وهي مقدَّمة في الوقت الراهن على حضور مجلس العلم في المسجد!

مثال آخر: زوجة تصوم لله تطوعاً يدعوها زوجها إلى الفراش فتقطع صومها وتلبّي رغبة زوجها، وهذه العبادة – إعفاف الزوج – تكون الآن مُقدَّمة على الصيام!

إذن، أفضل الأعمال عند الله في وقت من الأوقات أو عصر من العصور يختلف عنه في وقت أخر وعصر آخر. وفي عصرنا هذا، يتأخر المسلمون عن العالم كله، ليس لقلة في العدد ولا في الموارد، ولكن لإهمال العلم، وانتشار الفساد بكل أنواعه، وسوء الخُلُق حتى في أوساط بعض الدعاة!

فأمةٌ لا تزرع أكلها ولا تصنع متطلباتها ولا تتعامل بالحق والنزاهة والعدل لا تصلح أن تكون أمة متقدمة.. وعلى هذا، فربما يكون أجر التعلم والثقافة والمذاكرة أعلى عند الله من غيرها من الأعمال، أو يكون تعب أمٍّ أو مُدرّس في تربية جيلٍ صالحٍ أعلى عند الله من ثواب قائم الليل أو صائم النهار، ذلك لأنهم قد عبدوا الله بأكثر ما تحتاجه الأمة في هذا الوقت، بالطبع دون إهمالٍ للفروض الواجبة.

ربما أحدكم الآن يهمس قائلاً: كلامك يا دكتور مفهوم ومعلوم! فلَهُ أقول: إحمد الله أنك عرفت هذا، فالزم هذه المعرفة شرحاً وتطبيقاً، لأنني رأيت وتعاملت مع أناس كُثُر لم يفهموا هذا بعد ولم يطبقوه، ومنهم حملة شهادات شرعية وأصحاب عمائم!

في يوم جميل دخلتُ إلى المحكمة الشرعية في طرابلس – لبنان لعقد قراني.. وكان عليِّ الحصول على توقيع أحد المشايخ.. فلما دلفتُ إلى مكتبه إذا به يقرأ القرآن، وأنا أقف أمامه وهو يراني، إلا أنه يتابع قراءة القرآن بتؤدة..

قلت في نفسي: يا فضيلة الشيخ المحترم، أنت هنا لتخدم الناس وتيسّر معاملاتهم لا لتقرأ القرآن! اقرأ ما شئت في وقت فراغك، ولكن عند حضور من يحتاج إلى توقيعك فإن عبادتك لله الآن هي في إمضاء معاملة الناس.

تعالَ معي إلى مستشفى “البشير” العزيز على قلبي في عمّان، وإليك – أيها القاريء الكريم – مثالاً آخر.

أُذِّن لصلاة الفجر وأنا ما زلت في غرفة العمليات القيصرية.. أقول لمساعدي – فني التخدير – بعد أن انتهينا من وضع الأنبوب في القصبة الهوائية للأم: اغسل منظار الحنجرة (laryngoscope) جيداً، فيعاجلني بجوابه: لا مشكلة (غير مهم)، أريد أن ألحق الصلاة!!

هل – برأيك – فهمَ هذا الانسان معنى عبادة الله حقَّ الفهم؟

على رسلك، لا تفهمني خطأ، أنا لست ضد أن يصلي الفجر في جماعة، ولكن اتقان العمل، الذي هو عبادة الوقت، يتوجب عليه غسل العُدّة وتجهيزها قبل أن يذهب إلى الصلاة (وهو أساساً معذور بترك الصلاة في جماعة بحكم انشغاله في عملية طارئة).. ثم هل سيقبل هو باستخدام هذه الأداة الملوثة في فم مريضة تقربهُ مثلاً؟!

مثال آخر أيضاً من مستشفى “البشير”، ولكنه هذه المرة إيجابي، وبَطَلتُه طبيبة إختصاصية نساء و ولادة، كانت مسـيـحـيـة أرثوذوكسية ثم أسـلمـت وفـهـمـتْ فعلاً معنى الإسـلام.

قمتُ بتخدير إمرأة ولاّدة في عملية قيصرية طارئة عند آذان الفجر، ثم بعد أن أطمأننتُ إلى استخراج الطفل سالماً وإلى استقرار حالة الأم، خرجت من غرفة العمليات تاركاً الباب مفتوحاً، ودخلت إلى مكتب الأطباء المقابل. وقفت على سجادة الصلاة لأصلي ركعتيْ الفجر..

في هذه اللحظة يأتيني خبرعن حالة طارئة أخرى و وجوب إجراء عملية قيصرية فوراً لإمرأة تعسّرت ولادتها وتعبَ جنينها (fetal distress).. صرختُ بهم: دعوني فقط أصلي هاتين الركعتين وبعدها أُخدِّر الولّادة!

فأتاني صوت الطبيبة (التي أسلمت):

– دكتور، إذا تريد أن تصلي الآن صلِّ، ولكن إعلمْ أنه إذا أصاب الجنين مكروه بسبب تأخيرك في تخدير الأم، فإن صلاتك “ليست حلالاً”!

قالتها هكذا.. لا زلت أحفظ تعبيرها بالحرف: “صلاتك مش حلال”!

لقد أفحمتْني بالحُجّة واضطررتُ إلى التوجه فوراً إلى غرفة العمليات الثانية وتخدير الولّادة على عجل، ثمّ عندما سنحت لي الفرصة صليت.. والسؤال هو: هل كنتُ سأكون راضياً مرضياً فعلاً إذا أصاب الجنين أو الأم أي سوء بسبب تأخيري عن تخديرها لإنشغالي بالصلاة؟!

تعالَ معي نتعلم الدين من أحد عمالقته.

ابن عباس، رضي الله عنه، كان معتكفاً في مسجد رسول الله ، فأتاه رجل فَسَلَّمَ عليه، ثم جلس.

فقال له ابن عباس: يا فُلان أراك مُكتئباً حزيناً!؟

قال: نعم يا ابن عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ. لِفُلانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ما أَقْدِرُ عليه (أي لا أطيق سداد الدَيْن الذي له علَيّ).

قال ابن عبّاس: أَفَلا أُكَلِّمُهُ فِيكَ؟

قال: إِنْ أَحْبَبْتَ.

فخرج ابن عباس من المسجد، فقال له الرجل: أنَسِيتَ مَا كُنْتَ فيه (أي الاعتكاف

قال ابن عباس: لا، ولكِنِّي سَمِعْتُ صاحب هذا القبر ـ وأشار إلى قبر الرسول ـ و العهدُ به قريب (وهنا دمعتْ عينا ابن عباس)، وهو يقول: ” مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ وَبَلَغَ فِيهَا كَانَ خَيْرًا مِنِ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ..”

الله أكبر! هذا هو دينك يا مسلم: تخدم الناس، وتُعينهم، وتُيسّر معاملاتهم، وتهديهم أغلى ما عندك – ألا وهو وقتك الثمين -، فيعطيك الله من الأجر والثواب أكثر بكثير مما يعطيك على العبادات النافلة.

وهنا أقول لموظفي الدوائر الحكومية في بعض البلدان العربية، والذين يخرجون من دوامهم بحجة أداء الصلاة قبل نصف ساعة من وقت الصلاة، ثم يعودون إلى مكاتبهم بعد نصف ساعة أخرى من إنقضاء الصلاة، أقول لهم: حرامٌ عليكم! أنتم بتعطيلكم لأعمال الناس وتضييع أوقاتهم أبعد ما تكونوا عن التدين الصحيح، وعن الإيمان والإحسان، ولو اعتذرتم بأنكم كنتم تؤدون الفريضة، فاتقوا الله!

ختاماً، تعالَ معي نتأمل سوياً هذا الحديث الصحيح:

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله :

“إن قامت الساعة وبـيَد أحدكم فسـيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”.

و”الفسيلة” هي النخلة الفرعية من الأم، تُقْطَعُ فَتُغْرَس.

انتبهتم يا سادة؟

القيامة تقوم.. والدنيا بكل ما فيها ستنتهي وتزول.. وبيدك شتلة نخلة تريد أن تزرعها، وهي لن تصبح نخلة قبل عدة سنوات، أي أنه من المستحيل أن تراها شجرة نخيل مثمرة..

ثم ماذا؟!

هل ترمي الفسيلة وتجلس تقرأ القرآن أو تصلي؟

لا، بل تتابع عملك الإيجابي، وعبادتك لله ﷻ في فعل الخير، وخدمة المجتمع والبيئة!

سبحان الله والحمد لله!

أي أنني – بتطبيقي العملي كطبيب تخدير – أقول لزملائي: إذا قامت الساعة وأنت في غرفة العمليات أو غرفة الطوارىء تهمُّ بوضع الأنبوبة الحنجرية (التيوب) لتأمين مجرى التنفس الهوائي لمريض ما، فتابع عملك وأتقنه ما دمت مخلصاً فيه تخدم الناس عبادة لله ﷻ!

هذا ما ينبغي فعله شرعاً، وأنت قِسْ على ذلك بحكم مهنتك.

هل لاحظت معي ماذا حصل وماذا سيحصل لو أننا فهمنا ديننا حقاً؟

هل تفكّرت في عظمة الإسلام، وفي هذه الميزة العجيبة التي يتميز بها ديننا – دين الفطرة الإنسانية السوية – وهي أن طريق الآخرة هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا مجافاة، وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة، ولا العبادة عن العمل. كلاهما شيء واحد في نظر الإِسلام، وكلاهما مختلطان ممتزجان، وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه.

تعالَ معي، إذن، نعبد الله حقاً ونردد سوياً:

اللهُمَّ أحْـيـنا مُسلـمـين إيـجابـيـين مُنتـجـين وألْـحِـقْنـا بالصـالحـين!