خصص الله سبحانه سورة كاملة في القرآن الكريم باسم الكوثر، وهذه السورة رغم اختلاف المفسرين في كونها من إعداد السور المكية أو المدنية، فإنه اتفقت أقوالهم على اسم السورة، وهي من السور التي لها اسم واحد، فقد جاءت لها التسمية في الحديث الصحيح، في «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك قال: «بينا رسول الله ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: (إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر) [الكوثر: 1- 3] ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة».

واختصر ابن عاشور اختلاف المفسرين حول موضع نزول هذه السورة الكريمة على النبي صلى الله عليه وسلم هل هي مكية أو مدنية؟ ومما قال في هذا الشأن ما يأتي:

تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا، فهي مكية عند الجمهور واقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب «النشر» قال: أجمع من نعرفه على أنها مكية. قال الخفاجي: وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.

وعن الحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة: هي مدنية ويشهد لهم ما جاء في حديث أنس بن مالك السابق.

قال ابن عاشور: وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ «آنفا» في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا. أي: تكون السورة مدنية، لأن الرؤيا وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة.

ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر) أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى: (وانحر) من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية.

ويبعث على أن قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر) ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك.

ثم قال: والأظهر أن هذه السورة مدنية، وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها. [التحرير والتنوير (30/ 571)].

واختيار ابن عاشور في أن السورة مدنية على الأظهر هو مذهب كثير من القراء بناء على الحديث المذكور، وله طرق متعددة عن أنس بن مالك ذكرها ابن كثير في تفسيره.

ما هو الكوثر الذي جاء في السورة؟

لفظ (الكوثر) على وزن فوعل اسم من الكثرة، وهي من الأسماء الجامدة غالبا نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة،  [التحرير والتنوير: 30/572]
واختلف في الكوثر، هل هو علمٌ أم وصف؟
فمن قال إنه علم، قالوا: إنه علم على نهر في الجنة. أما من اختار أن الكوثر وصف فمعناه: الخير الكثير.
ومما استدل به على العلمية، ما جاء في السنة من الأحاديث الصحاح، ذكرها ابن كثير وغيره.
وفي صحيح البخاري عن أنس قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: «أتيت نهرا حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفا. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر» .

وبسنده أيضا عن عائشة رضي الله عنها «سئلت عن قوله تعالى: إنا أعطيناك الكوثر، قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليهما در مجوف، آنيته كعدد النجوم» .

وبسنده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه.

قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.

وهذه النصوص على أن الكوثر نهر في الجنة، أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

ومما يفيد – ولو بالإشارة – أن كلمة الكوثر وصف، ما جاء في رواية أحمد، عن أنس بن مالك قال: «أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، فرفع رأسه متبسما إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه نزلت علي آنفا سورة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، إنا أعطيناك الكوثر، حتى ختمها، فقال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 9/ 127].

وفي هذا الحديث قوله: «عليه خير كثير» يشعر بأن معنى الوصفية موجود. ولذا قال بعض المفسرين: إنه الخير الكثير. وممن قال ذلك ابن عباس.

قال الشنقيطي في الأضواء: والذي تطمئن إليه النفس أن الكوثر، هو الخير الكثير، وأن الحوض أو النهر من جملة ذلك. وقد أتت آيات تدل على إعطاء الله لرسوله الخير الكثير، وذكر أمثلة كثيرة ضمن الخير الذي أعطي النبي صلى الله عليه وسلم.

ويميل ابن عطية إلى توجيه معنى الكوثر ليفيد الحظ الأعظم من الخير، فقال: لا مجال أن الذي أعطى الله محمدا عليه السلام من النبوة والحكمة والعلم بربه والفوز برضوانه والشرف على عباده هو أكثر الأشياء وأعظمها كأنه يقول في هذه الآية: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الحظ الأعظم. [تفسير ابن عطية 5/ 529]. لأن ذكره هنا على وجه الخصوص تنويه إلى أهميته وخصوصيته ومبالغة في كمال وشرف العطاء.

ما هي صفات الكوثر؟

سبق ذكر الأحاديث التي ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الكوثر، وأنه يطلق على النهر الذي أعطي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ويطلق على الخيرات التي وهبها النبي وهي كثيرة ومنها نهر الكوثر، وفي كلا القولين فإن في الجنة نهرا يطلق عليه الكوثر كما جاء في الأحاديث، وجاء تعيين صفاته في الأحاديث المذكورة. ومما يستخلص من أوصاف هذا النهر الآتي:
– الكوثر نهر في الجنة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك. وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج» وقال: هذا حديث حسن صحيح

– أنه حوض في الموقف، كما جاء في حديث مسلم المتقدم عن أنس. فيكون الكوثر شاملا نهرا في الجنة، وحوضا ترد عليه أمة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.

– هذا الحوض يصب فيه ميزابان من ‌الكوثر، وهو النهر العظيم، الذي أعطيه النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجنة؛ ينزلان إلى هذا الحوض.

– إذا كان ماء الحوض يأتي من نهر الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فيكون وصف الماء كالآتي:

1- ماء الحوض أشد بياضًا من اللبن في اللون

2- طعم الماء: أحلى من العسل

3- رائحة الماء: أطيب من ريح المسك؛ كما ثبت به الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم.

4- عدد آنية الماء: عدد نجوم السماء.

5- مساحة هذا الحوض: “طوله شهر وعرضه شهر”. هذا إذًا يقتضي أن يكون مدورًا؛ لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب؛ إلا إذا كان مدورًا، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – من سير الإبل المعتاد.

5- آثار هذا الحوض: “من يشرب منه شربة؛ لا يظمأ بعدها أبدًا”، حتى على الصراط وبعده. وهذه من حكمة الله عزَّ وجلَّ؛ لأن الذي يشرب من الشريعة في الدنيا لا يخسر أبدًا كذلك. [شرح العقيدة الواسطية ابن عثيمين: 2/159]