أثبتت كتب تاريخ التشريع أن التقليد والركود في علم الاستنباط الفقهي بدأ بالتحديد في القرن الرابع، كما ورد في مقالنا عن “حرية الاجتهاد أم توحيد المذاهب”. ولكن مقابل هذا  الضعف في العطاء الفقهي انصرفت جهود العلماء إلى علم أصول الفقه،  تأليفا وتدوينا وتطويرا، برزت خلالها نظريات أصولية مختلفة تؤطر لمناهج الاستنباط الفقهي لدي المذاهب الفقهية الموجودة، والتخريج على مسائلها..حتى يمكن أن نقول إنما تميز علماء القرن الرابع  رغم التقليد المتفشي في المجال الفقهي خلال أدوراهم الفكرية الملحوظة في مجال تقنين اصول التشريع – أي أصول الفقه الإسلامي، ومن هذه الميزات:

1-  إظهار علل الأحكام الشرعية التي استنبطها أئمة المذاهب، ويطلق على القائمين بهذا العمل  علماء التخريج .

2- الترجيح بين الآراء المختلفة في المذهب الواحد سواء أكان الترجيح من جهة الرواية أم من جهة الدراية .

3- إبراز جوانب الخلاف بين المذاهب مع الانتصار للمذهب الذي ينتمي إليه الفقيه .. عقدوا لذلك مجالس المناظرة، وأفت كتب في أدب الخلاف .[1]

هذه الميزات المذكورة اعتبرها عدد من الباحثين في مجال التشريع الإسلامي مجالا بديلا للعلماء عن الاجتهاد في الفقه

يقول عبد الوهاب أبو سليمان:  وجد الفقهاء عموما في علم الأصول مجالا بديلا عن اجتهادهم في الفقه ومتنفسا لإبداعهم وانطلاق تفكيرهم، فتميزوا بآراء مستقلة وأفكار مبتكرة لم يسبقوا إليها، وقد ساعد على هذا ، وأسهم فيه مساهمة كبيرة شيوع العلوم العقلية … إلى أن قال:

وبهذه الأسباب تكشف القرن الرابع عن حالة جديدة في العلوم كافة وهي مرحلة النقد والتصحيح والتعليل والتمحيص مما كان له نتائجه المباشرة في إثراء لم أصول الفقه. ص 108.

وإن حركة التأليف في الأصول نشطت، وتميزت كتب القرن الرابع بعد عهد الشافعي بأنها مدونات شاملة في علم أصول الفقه لم يختصر على  جزء دون آخر إلا في إطار الردود على المخالفين. واعتنت هذه المؤلفات بتقرير المبادئ الأصولية للمذاهب الفقهية، حتى أصبح لكل مذهب مدونات أصولية خاصة. ومع الدخول في القرن الخامس ازدهر علم أصول الفقه واكتملت نظرياته على كبار المنظرين أمثال الجويني والغزالي والباقلاني والقاضي عبد الوهاب والباجي من المالكية.

بل ظهرت حيال هذه الموجة من التدوين نظريات وحقائق في علم الأصول من خلال الأطروحات العلمية التي تناقشها المدونات الأصولية في هذا العصر،  فظهرت نظرية الكعبي أن المباح مأمور به، والعلم الحاصل من الخبر المتواتر نظري، ونظرية الجبائي أن امتثال الأمر لا يوجب الإجزاء، واختيار الاصطخري أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المداوم عليها – وإن كانت مجردة – عن القرينة الدالة على الوجوب، يكون دليلا للوجوب…

يلاحظ في هذه المدونات والأطروحات الأصولية  تأثر علماء الأصول بعلم المنطق تأثرا واضحا لا سيما في تحديد المصطلحات العلمية الخاصة في علم الأصول بما يسمى التعريفات أو الحدود مما ساهم في نموه وكان الغرض وراء ذلك:

أ –  توضيح المعاني والمصطلحات الأصولية باستخدام معايير منطقية ، مما فتح مجالا كبيرا للنقد.

ب – ظهور مؤلفات مستقلة تعنى بالحدود والتعريفات للمصطلحات الأصولية الخاصة.  (الفكر الأصولي… 164)

الغزالي في تحديد علاقة علم الأصول بعلم الكلام

إن تسرب علم المنطق إلى الأصول ساعد على نمو هذا العلم كما سبق، لكن لم يسلم هذا الخلط من النقد والتوجيه، نأخذ نموذج الغزالي من علماء الأصول الأقدمين في مرحلة نضوج علم الأصول،  إن لم يكن من أشهرهم، وتفنن كذلك في مجال علم المنطق، يبدي اعتراضه على هذا الخلط بين هذين العلمين الفكريين، واعتبر دخول المنطق على علم الأصول غير مفيد إلا في إطار التعريفات.. نتعرف على أهم ملاحظاته:

1- ينظّر الغزالي في المستصفى أن علم الكلام (العقيدة) هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها، فهي جزئية بالإضافة إلى الكلام، فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات. [المستصفى 6].

2- ثم افترض الغزالي ما يمكن أن يعترض به على هذا الأصل، يقول: “فإن قيل: فليكن من شرط الأصولي والفقيه والمفسر والمحدث أن يكون قد حصل علم الكلام لأنه قبل الفراغ من الكلي الأعلى كيف يمكنه النزول إلى الجزئي الأسفل؟ قلنا: ليس ذلك شرطا في كونه أصوليا وفقيها ومفسرا ومحدثا وإن كان ذلك شرطا في كونه عالما مطلقا مليئا بالعلوم الدينية”.

3 – وحدد الغزالي علاقة الأصولي بعلم الكلام وذلك أن الأصولي يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق، ثم ينظر في وجوه دلالته وشروط صحته.

فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادئ علمه إلى أن يترقى إلى العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر. (المستصفى 7).

سبب خلط بعض قضايا المعرفة بعلم أصول الفقه

– حاول الإمام الغزالي في المستصفى إبراز سبب خلط علم المعرفة  (المنطق) بعلم أصول الفقه، خصوصا أن علم الأصول لا يربطه شيء بعلم المنطق حتى يقال إنه داخل فيه، وليس جزءا خاصا منه يقول:

” لما رجع حد أصول الفقه إلى معرفة أدلة الأحكام اشتمل الحد على ثلاثة ألفاظ: المعرفة والدليل والحكم فقالوا: إذا لم يكن بد من معرفة الحكم حتى كان معرفته أحد الأقطاب الأربعة فلا بد أيضا من معرفة الدليل ومعرفة المعرفة، أعني العلم. ثم العلم المطلوب لا وصول إليه إلا بالنظر، فلا بد من معرفة النظر فشرعوا في بيان حد العلم والدليل والنظر ولم يقتصروا على تعريف صور هذه الأمور، ولكن انجر بهم إلى إقامة الدليل على إثبات العلم على منكريه من السوفسطائية وإقامة الدليل على النظر على منكري النظر وإلى جملة من أقسام العلوم وأقسام الأدلة، وذلك مجاوزة لحد هذا العلم وخلط له بالكلام”

ويظهر لنا من خلال كلام الغزالي أن نظار علم الأصول جرهم إلى هذا الخلط غلبة تعلقهم بعلم المنطق وشدة حبهم له. يفصح عن ذلك الإمام الغزالي بقوله:

“وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة” /المستصفى 9/.

ويمكن اختصار فكر الإمام الغزالي في عبارته العامة حين يقول: ” وليست هذه المقدمة – أي مقدمة في مدارك علم المنطق – من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا”. /المستصفى 10/.


[1]  تاريخ التشريع الإسلامي، الخضري بك (283- 285)،  عبد الوهاب أبو سليمان، الفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية (106).