الإنسان دائم التعامل مع الآخرين، لذا يزخر في خاطره الكلام، يستخدمه لتبادل الأفكار الرائعة والمعاني المتولدة في قلبه، وهذا يبني قصورا مرموقة بالمعارف، ويهدم سكوت الجهل، وبه المؤلف يجمع، وبه الكاتب يبدع، وبه يتكلم المتكلم، ويتحدث المتحدث، يقرض به الشاعر، ويقص به القاص  ويستفيد منه المستفيد، تشاهد صفحات المصنف الكلمات الجديدة الناتجة من قلمه، تتلون بها السطور والخطوط، تصطبغ هذه الصفحات بصبغة العلوم والمعرفة، فالإنسان صاحب الكلام، يمتلئ في باطنه العديد من النظريات، والدلالات، يبرزها بكلامه الذي هو نعمة عظيمة من الله عز وجل.

فحين يقرأ القارئ هو يجمع بين الكلمات المسطورة بإجراء عينيه عليها، ويجتذب إليها، وينتفع بها، يعتبر منها، ويتسلح بأدوات العلم منها، أما الكتب الموضوعة من الناس ثابتة حسب الزمان والمكان، تتفاوت أهميتها من مكان دون مكان، يختلف الاعتناء بها من زمن دون آخر، فالقرآن لا تنقص مراعاته ولا تتغير قيمته إلى يوم القيامة، ذلك كلام الله الخالد اللائق لكل عصر ومصر، الناسج بين المعاش والمعاد، الصالح للجميع، تكلف الله بصيانته كما قال تعالى : { إنا نحۡن نزلۡنا ٱلذكۡر وإنا له لحـٰفظون } [الحجر: 9]

العرب فرسان اللغة والبلاغة صاحبوا بفصاحتها ساروا على ذروة من الأدب، لكن أعجزهم وأبهرهم كلام الله، أعجب الناس (مؤمنا كان مشركا) بتراكيبه وتأثروا بمعانيه وأسلوبه، لم يصلهم مثيل له في تاريخهم، وهو خطاب للناس كله بلسان رسوله، أسلوب القرآن مختلف تماما عن الكتب الأخرى،  لأنه وضعه الله تعالى، ويهتم الباحث في هذا المقال بالدراسة عن أسلوب الخطاب في سورة الفاتحة سائلا المولى دوام الخير وحسن التوفيق،

معنى الفاتحة في الأصل أول ما من شأنه أن يفتتح به، ثم أطلقت على أول كل شيء كالكلام، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، فسميت هذه السورة فاتحة الكتاب لكونه افتتح بها، إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف، وأول ما يتلوه التالي من الكتاب العزيز، وإن لم تكن أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت هذه السورة الشريفة بهذا الاسم في أيام النبوة.

أنها أفضل سورة في القرآن  كما روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا (صححه الألباني في صحيح الترمذي).

وهي السبع المثاني التي قال الله فيها : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87 ]، وروى البخاري (4474) عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ قَالَ له : (لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ) ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ : أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ).

على الأقل أن المؤمن يتلو هذه السورة في سبع عشر مرة في صلواته المفروضة اليومية لأنها ركن من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها ؛ فروى البخاري (756) ومسلم (394) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)، فهنا، يُطرَح سؤال إلى أذهاننا “لماذا فرض الله قراءة سورة الفاتحة في الصلوات كلها؟، فنحصل على جواب هذا بإلقاء النظرة إلى أسلوب الخطاب الذي نظمت به تلك السورة.

 إذا قمنا بتقسيم سوة الفاتحة ندرك ثلاثة أقسام فالأول قسم يحتوي على الثناء والحمد لله تعالى وصفاته والثاني قسم ينطوي على العهد والميثاق بين العبد وربه الأحد، والثالث قسم يشتمل على  الدعاء إلى هداية صراط الحق المستقيم، استعمل الله نفسه في سورة الفاتحة لتعبير الحمد له وصفاته صيغة الغائب، أي ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (٢) ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (٣) مَٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ (4)﴾ نجد هذه الآيات الثلاث قد وردت فيها صفاته والحمد له بصيغة الغائب، لكن، القسميْنِ الأخيرين تغيرت فيه الصيغة من الغائب إلى المخاطب، وهذا التحول للضمير يسمى في اللغة العربية بـ”الالتفات”، وهو المراد بـ”أسلوب الخطاب” في هذا المقال.   

يُعرِّف أهل اللغة (الالتفات) بأنه “انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة، ومن المخاطبة إلى الإخبار”. ويُعرَّف أيضاً بأنه “إخراج الكلام من أحد طرق التعبير الثلاثة: التكلم، والخطاب، والغيبة، إلى طريق آخر من هذه الطرق الثلاثة”. وبعبارة مختصرة فإن (الالتفات) يقصد به نقل الكلام من أسلوب إلى آخر.

فقراءة سورة الفاتحة مع التدبر تشعر العبد بعبوديته لربه، فهو عندما يتلو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يثبت كل كمال لله سبحانه ويحمده على ما وفقه إليه من الطاعة وما أنعم عليه من النعم، ويثني عليه بصفاته وأسمائه الحسنى. وبعد هذا تحول الضمير إلى المخاطبة لأنه هُنا التِفاتٌ بَدِيعٌ فَإنَّ الحامِدَ لَمّا حَمِدَ اللَّهَ تَعالى ووَصَفَهُ بِعَظِيمِ الصِّفاتِ بَلَغَتْ بِهِ الفِكْرَةُ مُنْتَهاها فَتَخَيَّلَ نَفْسَهُ في حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ فَخاطَبَ رَبَّهُ بِالإقْبالِ.

وكذلك عندما يتلو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يقر بالتوحيد والاستعانة بالله وحده، فاللخ هو المعبود وهو المستعان، وكل استعانة لا تكون بالله فهي خذلان وذل.وعندما يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو إقرار من العبد بأنه مفتقر إلى الهداية والثبات على طريق الحق، وأنه محتاج إلى ثمار الهداية والاستزادة منها، والبعد عن سبل المغضوب عليهم والضالين.

وهذا التأثير لا بد من اعتباره في الصلاة لأنها مناجاة العبد مع الله عز وجل، لذلك فرض الله تعالى قراءة سورة الفاتحة في الصلوات، وقد قال ابن القيم رحمه الله :”فأما اشتمالها “(اشتمال سورة الفاتحة) على شفاء القلوب : فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال ، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين : فساد العلم ، وفساد القصد ، ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب ، فالضلال نتيجة فساد العلم ، والغضب نتيجة فساد القصد ، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها ، فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال ، ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة ، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ، ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه[1]، فهذه السورة تبرز لنا ترتيبا صالحا للدعاء، أنها جمعت بين التوسل إلى الله تعالى بالحمد والثناء على الله تعالى وتمجيده ، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ، ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين ، فالداعي به حقيق بالإجابة.

 وقد ذكر ابن القيم الجوزية رحمه الله في زاد المعاد : ومن ساعده التوفيق وأُعِين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة وما اشتملت عليه من التوحيد ، ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال ، وإثبات الشرع والقدر والمعاد ، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله ، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين ، وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما ودفع مفاسدهما ، وأن العاقبة المطلقة التامة والنعمة الكاملة منوطة بها موقوفة على التحقق بها ؛ أغنته عن كثير من الأدوية والرقى ، واستفتح بها من الخير أبوابه ، ودفع بها من الشر أسبابه “[2]،  فكلام الله يواصل قلبَ الإنسان، يدرك عمق الوجدانات، ينبض الانفعالات، يبعث فيه العزم الإصرار وتملأ في القلب طاقة روحية، والله يبارك فينا لفهم آياته البينات التي سرقت قلوب البشرية، والله أعلم وهو الموفق.   


[1] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، الجزاالأول، الطبعة الثانية، الناشر دار عطاءات العلم الياض، ص  : 84

[2] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، الجزء الرابع، الطبعة الثانية، الناشر دار عطاءات العلم الياض، ص  : 514