تأمل معي قوله تعالى (ٱعْلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌۢ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَٰدِ ۖ ) إلى آخر الآية. ألا تستشعر أن القرآن هاهنا يقلل من قيمة الحياة الدنيا، فتجد من خلال تأملك للآية، أن سعيك الحثيث في أعمالك، وجدك واجتهادك في أمور دنيوية لا صلة لها بالآخرة، إنما هو إضاعة للوقت فيما لا يعود بنفع عليك لمستقبل قادم ستراه؟ وبالطبع لا أقصد بالمستقبل، هو ذاك المستقبل الدنيوي، إنما ذاك المستقبل الحقيقي الذي يكون في حياة آخرة باقية خالدة.

إن مشهد تقليل شأن الدنيا الذي يقوم به القرآن، يتضح لك أكثر من خلال بقية الآية، حين يوصف الله الدنيا بأنها (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًا ۖ )، وكلمة الحطام تعطيك تصوراً بأن الدنيا أشبه بورقة شجر يابسة، ما إن تضغط عليها حتى تتفتت وتطير مع أي هبة ريح.

إنها بالإضافة إلى ذلك، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لماذا؟ لأن الحياة الدنيا– كما في تفسير ظلال القرآن لسيد قطب – “حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها، تبدو في العين وفي الحس أمراً عظيماً هائلا. ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود، وتوزن بميزان الآخرة، تبدو شيئاً زهيداً تافها. وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة. أما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن، شأن يستحق أن يُحسب حسابه، ويُنظر إليه، ويُستعد له. فهي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا. وهي لا تنتهي إلى حطام كذلك النبات البالغ أجله. إنها حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام”.

من هنا يتبين لنا أهمية الاستثمار للغد، وبالطبع ليس الغد الدنيوي القريب -كما أسلفنا- بل الأخروي، والذي لا أقول عنه “غد بعيد”، بل هو ربما يكون الأقرب لأي أحد منا من الغد الدنيوي، فالآجال محددة، وآخرة الإنسان تبدأ لحظة موته وانتقاله من الفانية إلى الباقية.. وفي كل الأحوال، ليس مقصدنا هنا الحديث عن التوقيت، بقدر ما هو كيفية استثمار اليوم الدنيوي للغد الأخروي، دون أن ننسى بالطبع نصيبنا من الدنيا كما يوجهنا القرآن (وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلْأَرْضِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ).

أعمار أمتي من الستين إلى السبعين

في الحديث أن أعمار أمتي من الستين إلى السبعين وأقلهم من يجاوز ذلك، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك إشارة إلى قصر الأعمار أو المدة الزمنية المقررة لهذه الأمة، على عكس ما كانت الأمم السابقة. وقد قال الإمام الطيبي صاحب كتاب التبيان في المعاني والبيان، في مسألة الأعمار هذه أنها: “رحمة الله بهذه الأمة ورفقه بهم، أخرهم في الأصلاب، حتى أخرجهم إلى الأرحام بعد نفاد الدنيا. ثم قصّر أعمارهم لئلا يلتبسوا بالدنيا إلا قليلا، فإن القرون السالفة كانت أعمارهم وأبدانهم وأرزاقهم أضعاف ذلك. كان أحدهم يُعمّر ألف سنة، وطوله ثمانون ذراعا وأكثر وأقل، وحبة القمح ككلوة البقرة، والرمانة يحملها عشرة، فكانوا يتناولون الدنيا بمثل تلك الأجساد، وفي تلك الأعمار، فبطروا واستكبروا وأعرضوا عن الله (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)، فلم يزل الخلق ينقصون خلقاً ورزقاً وأجلاً إلى أن صارت هذه الأمة آخر الأمم، يأخذون أرزاقاً قليلة، بأبدان ضعيفة، في مدة قصيرة، كيلا يبطروا. فذلك رحمة بهم.”

لكن مع قصر الأعمار لهذه الأمة، إلا أن الله عوّضنا بأجور عبادات نقوم بها، تقلل الفارق في مسألة الأعمار. ومن ذلك مثلاً، جعل لنا ليلة في العام تعادل العبادة فيها، عبادة ثلاثة وثمانين عاماً، هي ليلة القدر لمن تحراها وقام بما يجب إيماناً واحتسابا. ومن ذلك أيضاً، الإكثار من العمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة، وصوم يوم عرفة، وغير ذلك من أعمال وعبادات متنوعة، كلها تصب في خانة استثمار العمر فيما ينفع للمستقبل الأخروي.

اجعل لك خبيئة

من طرق استثمار الوقت أو العمر الكثيرة والمتنوعة، العمل على تجسيد وصية نبوية كريمة على أرض الواقع، والمتمثلة في قوله عليه الصلاة والسلام: “من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل”. وحين نتحدث عن فكرة الخبيئة أو العمل الصالح الخفي، تتبادر إلى الذهن قصص كثيرة، منها قصة في التاريخ مشهورة، يمكن اعتبارها نموذجاً للخبيئة، أو العمل الخفي بين الله والعبد، وهي قصة صاحب النقب، الذي لم يعرفه أحد حتى اليوم والى قيام الساعة. وحقق الله ما أراده.

حاصر القائد مسلمة بن عبدالملك بن مروان في إحدى المعارك ضد الروم، حصناً منيعاً لهم لم يجد المسلمون طريقة لاقتحامه إلا واستخدموها دون جدوى. حتى قام أحد الجند وقد تلثم، وأحدث نقباً في جدار الحصن دون أن يتنبه إليه جند الروم، فإذا ما طلع النهار، قام صاحب النقب باقتحام الحصن عبر النقب الذي أحدثه، وفتح إحدى أبوابه، وما انتبه الروم إلا وجنود مسلمة وقد اقتحموا الحصن مكبرين مهللين، وانتهى بذلك الحصار الطويل بهزيمة الروم.

بعد أن انتهى المسلمون من المعركة، قام قائد الجيش مسلمة فنادى في جنده: أين صاحب النِّقب؟ فما جاء أحد، فنادى أخرى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه -أي حلفت- إلا جاء. وفي الليل والقائد بخيمته، جاء رجل ملثم فقال للحاجب: استأذن لي على الأمير. فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تُسَوِّدُوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو. فقال مسلمة: فذاك له. قال في استحياء: أنا هو. فكان مسلمة، كما جاءت بالروايات التاريخية، لا يصلي بعدها إلا ويردد دعاءً يقول فيه: “اللهم اجعلني مع صاحب النقب”.

إن أحدنا كما يحرص على أن يستر نفسه من الأفعال السيئة التي يقوم بها بين حين وآخر، ولا يعلم بها إلا الله، فإنه جدير به كذلك الاستمرار على النهج نفسه، ولكن مع الخير والعمل الصالح كما قال الصحابي الجليل، الزبير بن العوام -رضي الله عنه-: “اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح كما أن لكم خبيئة من العمل السيء”.
والله كفـيـل بكل جمـيـل وهو حسبنا ونعم الوكيل.