يتساءل الإنسان أسئلة كثيرة حول الكون الذي يعيشه، أسئلة تساءلها الإنسان من قديم، وكانت محورا رئيسا من المباحث الفلسفية التي شغلت الفلاسفة.

لماذا أعطى الله الإنسان حرية الإرادة  بين الخير والشر؟

لماذا أعطى الله الإنسان القدرة على فعل الخير والشر معًا؟

لماذا خلق الله الناس متفاوتين في العمر والرزق والمال والجمال ؟

لماذا لا تخلو الدنيا من الشرور والمظالم ؟

أهمية العلم بأصول الكليات

هذه الأسئلة التي شغلت البشرية، بل شغلت أذكياء العالم من الفلاسفة والحكماء، لا يمكن الإجابة عليها إلا بعد الإجابة على السؤال الأكبر : لماذا خلق الله الإنسان ؟ أو لماذا خلق الله العالَم كله؟

إن الإجابة على هذا السؤال الأكبر هي في ذاتها إجابة على باقي هذه الأسئلة الفرعية، وبقدر وضوح الإجابة عليه يكون وضوح باقي الإجابات، وبقدر ضبابية الإجابة عليه تكون الضبابية في باقي الإجابات!وفي بيان أهمية العلم بأصول الكليات يقول شيخ الإسلام : “لا بد أنْ يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم.” [منهاج السنة النبوية” (5/ 83).

خلقنا الله للابتلاء

ولأن هذا السؤال لا يمكن الوصول إليه إلا بهدى من الوحي؛ لأجل ذلك تكفل القرآن بالإجابة عليه، وقدمه حقيقة قرآنية يزخر به القرآن كله.

قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [هود: 7]

أي :هو الذي خلق السموات والأرض، وسخر لكم ما في السموات والأرض ليمتحنكم، فيظهر أَيكم أحسن عملا من سواه، فيجازيكم على عملكم لا ما علمه أزلا بكم. فإِن العمل حجة على صاحبه.

وقال تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

فالحكمة إذن من خلق الإنسان، هي : الابتلاء.

تجهيز الدنيا لتناسب الابتلاء

وبما أن الإنسان سيعيش حياة الابتلاء على الأرض، فمن ثم كان على الأرض أن تتجهز لتناسب طبيعة حياة الابتلاء.

فلا غرو أن كانت الحياة في الدنيا معركة طويلة الأمد، كثيرة التكاليف، محفوفة بالأخطار والمشقات.

فتجهزت الحياة الدنيا على نحو جعلها من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته، فكم يخفق له عمل، أو يخيب له أمل. أو يموت له حبيب. أو يمرض له بدن، أو يفقد منه مال.

ففيها يبتلى الإنسان بالآلام : الجوع، والفقر، والموت، والمصائب، والأذى من الظالمين، واضطهاد الكافرين للمؤمنين المستضعفين والتنكيل بهم.

يبتلي الله فيها المؤمنين بالآلام ، التي يأتي بعضها وربما أكثرها من إيذاء الظالمين إياهم ؛ لينظر هل ينساق المؤمنون في ركاب الظالمين دفعا لضررهم، أم يجابهونهم، ويصدعون بالحق في وجوههم إيثارا لما عند الله من مثوبة للمجاهدين.

قال تعالى : {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [آل عمران: 186]

وقال تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]

فلن تكون الدنيا جنة في الأرض؛ لأن الجنة لا تصلح للاختبار، والنعيم الدائم لا يتساوق مع الامتحان.

قال الشاعر يصف الدنيا:

جبلت على كدر وأنت تريدها … صفوا من الآلام والأكدار!

ومكلف الأيام ضد طباعها … متطلب في الماء جذوة نار

كما أن هذا هو السبب في خلق زينة الأرض ؛ قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]

تجهيز الإنسان ليناسب الابتلاء

كما أن طبيعة الإنسان أيضا عليها أن تكون متساوقة مع حياة الابتلاء؛ فالابتلاء باعتباره الحكمة من خلق الإنسان، يفسر لنا  طبيعة الإنسان، من حبه المال والقوة والجاه والسلطان، ورغبته الجامحة للاستمتاع بمتع الدنيا الزائلة،  وتزيينها له حتى يقع الاختبار، وإلا فلو كان الإنسان مثل الملائكة لا يكترث برغبة، ولا تستميله شهوة، لما حصل الاختبار، وللإشارة إلى ذلك قال تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، وقال تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28]

كما تفسر لنا حقيقة الابتلاء الحكمةَ التي من أجلها زودت النفس البشرية بالميل إلى الشر والخير على السواء،{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 7 – 10].

ومن ثم فحياة الإنسان من أولها إلى آخرها تهدف في جزئياتها وكلياتها للابتلاء وتؤدي إليه {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [البلد: 4].

الشر للابتلاء

ووجود الشر في الكون، تفسره كذلك الحكمة من الخلق ( الابتلاء) قال تعالى : {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ذلك أن الله تعالى مكَّن الشيطان من الوسوسة والإيعاز بالشر؛ للفتنة والابتلاء أيضا، ودليل ذلك قوله تعالى: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53].

والفتنة هي الابتلاء الشديد، أي أن الله سبحانه مكن الشيطان من وسوسته وإيعازه بالشر في قلوب الناس جميعا حتى يتبين الذين في قلوبهم مرض، ويتبين المؤمنون.

فما جعله الله من إمكانات للشيطان إنما جعله له لابتلاء الناس والجن؛ حتى يستبين المؤمن من الكافر.[ القضاء والقدر، الدسوقي (1/163)]

التفاوت بين الناس

وبهذا يمكننا أن ندرك الحكمة من خلق التفاوت بين الناس في الأجل والرزق والجاه والسلطان والجمال والذكاء والحكمة والقوة والذرية ؛ إنها الابتلاء؛ قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]

فجعل الله الإنسان كائنا اجتماعيا ليبتلي الناس بالناس؛ حيث إن العلاقات القائمة بينهم على اختلافها، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات تشكل مواقف وتجارب حقيقية لابتلائهم بعضهم ببعض.

فيبتلي الرسل بأممهم، والأمم بالرسل، ويبتلي الحاكم بالمحكوم، والمحكوم بالحاكم، ويبتلي القوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، والزوج بالزوجة، والآباء بالأولاد..وهكذا.قال تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. [ القضاء والقدر، الدسوقي (1/165)]

فحياة الإنسان على الأرض ليست إلا مجموعة من الابتلاءات بالشر والخير؛ لذلك هيئ الإنسان ليكون مالكًا لقراره ؛ حتى يكون مسئولا عن نتيجة اختياره. فإذا أدرك الإنسان الحكمة من الخلق على هذا النحو، وأنها الاختبار والامتحان، انحلت أمامه ألغاز كثيرة، وأدرك أنها كانت على هذا النحو لتمهد الأجواء إلى الابتلاء والاختبار.