يذهب كثير من علماء الأديان المعاصرين بأن الأديان تتكون من خمسة عناصر رئيسة: العقيدة الدينية، والشعائر والطقوس والمناسبات الدينية، ونظام الأخلاق، وحياة المؤسس، والكتاب المقدس. ويفهم أي دين في الوجود بإدراك هذه العناصر كما هي عند معتنقيها وليس كما يراها المخالف أو المنتقد. ولعل الحديث عن مكان ميلاد الشخصية المعظمة في الأديان، وزمان ميلاده ووفاته من الأمور التي تدخل في الحديث عن حياة المؤسس وفي الشعائر والطقوس والمناسبات الدينية، وقد يرد ذكر شيء من ذلك في الكتاب المقدس؛ ويمكن أن يطلق على كل هذا “الرموز الدينية”.

ذكرى ميلاد المسيح والمولد النبوي

من أكبر الرموز الدينية لأكبر ديانتين في العالم ذكرى ميلاد نبي الإسلام والمسيح عيسى. يذهب اليهود إلى أن عيسى –عليه السلام-  ولد في الناصرة، ويعتقد النصارى أنه ولد في بيت لحم في الخامس والعشرين من ديسمبر. فحُق أن يقدس ذاك اليوم كل من يراه “المخلص أو المنقذ”، لكن هل يتخذ ذلك اليوم عيدا؟ ويعتقد المسلمون بأن الله شرف الكون بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام عام الفيل الثاني عشر من ربيع الأول-على الأغلب-. فحق لكل مسلم أن يفرح بهذا اليوم، لكن هل يتخذ ذلك عيدا ويتدين المسلم قربة إلى الله به ؟

المدنية والدين

لعل المفارقة العجيبة التي اتسمت بها الحياة المدنية المعاصرة هي سعيها إلى إقصاء الدين ونفيه من قاموس حياة الناس حيناً، ومحاولة كسبه في الوقت نفسه وإرضائه أخرى. وحدثت بذاك خلخلة في بنية الفكر العلماني والمتدين مما أثر على قراءة النص الديني المقدس في عصر المدنية! تتمثل هذه المفارقة مثلا في الدعوة إلى التعددية الدينية، وإلى السلم العالمي، وإلى الاعتراف بجميع الأديان وجعل مناسباتها الدينية عطلة رسمية في دول متعددة الأديان.

إجازة ميلاد المسيح في ميزان التدين

بناء على المتغيرات والمعطيات المذكورة أعلاه كيف يتدين المسلم في عصر العولمة في مثل هذا الحدث، نجد موقفين في ذلك:

موقف الرفض: يذهب طائفة من علماء المسلمين إلى أن التدين ينافي الإجازة في هذا الحدث، وذلك لأنه حدث ديني بحت، وهو رمز من رموز الديانة النصرانية، وأن النصارى لن يرضوا إلا إذا غيروا نمط حياة المسلمين. وأن عقيدة الولاء والبراء تلزمنا القول بعدم مشروعية إجازة عيد ميلاد المسيح لذلك يجب الحذر منها، ويطلب الدولة الإسلامية رفع إجازة هذا اليوم. بل يذهب النقد إلى أعمق من ذلك، التشكيك في هذا التاريخ، أو أن أصله شركي يوناني ليس بينه وبين الديانة النصرانية صلة.

موقف القبول: ويحاول طائفة أخرى بيان أن هذا الحدث وأمثاله ليس بالضرورة أن يكون منافيا للتدين، فثمة فرق بين العيد والإجازة، وبين الاعتقاد والتصرف، وأن المجتمع الإنساني اليوم يعيش في عالم مفتوح، يقرّ بالتعددية الدينية. فالحدث عيدٌ من منظور ديني وعند الكنيسة، لكنه إجازة خارج الكنيسة. وتهنئة الجار أو الزميل النصراني بأن عيده سعيد لا يلزم القائل الإيمان بقداسة ذاك اليوم أو بصحة ديانته، وليس في الأمر خدش لدينه كمسلم، كما أن المسيحي يمكن أن يهنئ المسلم في عيد الأضحى بمثل ذلك دون أن يكون كافرا بالديانة النصرانية.

وهكذا لعب عنصر المدنية دورا في تفسير الدين والتخفيف من حدة الخلاف العقدي عند هذه الطائفة. وبهذا يتسع مجال لإجازات كثيرة في بلد متعددة الأديان دون أن يسبب مشكلة أو منكرا تجب إزالته، مثله مثل كتابة تاريخ الميلاد في المستشفيات بتاريخ ما، أو إعداد التقويم الدراسي بنفس التاريخ، أو جدول نظام الدوام والإجازت في شركة ما، كما أن نظام قبض الرواتب يمكن أن يرتبط بالأيام من حيث النظرة المدنية يشارك فيه الجميع لا الدينية الخاصة بصاحب الشأن.

المولد النبوي في ميزان التدين

ما مضى بمثابة بناء صورة التدين من الخارج إلى الداخل، أما هنا فالحديث عن التدين من الداخل إلى الداخل. نجد أيضا موقفين في ذلك:

اتجاه الرفض: يرى طائفة من علماء لمسلمين أن الاحتفال بذكر ميلاد النبي ليس من التدين في شيء، بل بدعة مشوهة للتدين نفسه، لأنه يقوم على جهل ومغالطة. وعليه، فإن محبة رسول الله تتم ببيان سيرته عليه الصلاة والسلام للناس والسير على خطاه. ولم يُعرف في حياة النبي، لا في سيرته أو هدي أصحابه الاحتفال بهذا اليوم. وأرجأ بعض المنتقدين لهذا الامر إلى تاريخ بداية هذا الاحتفال في التاريخ الإسلامي. وأنه لم يؤخر الأمة إلا خروجهم عن هدي رسول الله، وما كان عليه صحابته، وإن وعد الله بالنصر والتمكين مرتبط بالسير على الجادة الصحيحة، وأنه ليس في الإسلام إلا عيدان لا ثالث لهما.

اتجاه القبول: وفي المقابل يرى طائفة من علماء المسلمين أن الاحتفال بعيد المولد في صميم التدين، بل هو جوهر التدين وحقيقته. ويستند إلى عكس ما تراه الطائفة الأولى. فأي تدين أجمل من الفرح بميلاد رسول الرحمة، صاحب الخلق العظيم، رفع الله ذِكره، وأخرج الله به البشرية من الظلمات إلى النور.

العجيب أن الإسلام وصل إلى بعض البلدان بأحد هذين النمطين من التدين، والأعجب من هذا أن هذين الموقفين معروف وقديم في الفكر الإسلامي، وما زال مجال التأليف بإثبات أحد النمطين من التدين ودحض الآخر ممكنا. فهل من حل؟

ولا جرم أن يرمي المذهب الاول الآخر بالتشدد والتنطع والتخلف والرجعية ويصف نفسه بوسطية الإسلام والتيسير، وكذا الأخير يرمي الرافضين بممايعة الدين، ومداهنة الغرب، وتحكم في نصوص الشريعة ليوافق هواه، ويصف نفسه بأنه على هدي السلف الصالح، فإلى متى يتحامل المسلمون بعضهم على بعض ويحرّض كل فريق على الآخر في كل مناسبة يتابن فيها الموقف الفقهي؟ لعل الحل في: “الحق أحق أن يتبع، ويعرف بالدليل لا بالرجال والعادات، وأنه لا تنازل في قضايا الإسلام ولا مجاملة فيها..” وهذا الجواب حمال وجوه، ويصح على لسان الفريقين.