لا يزال القرآن الكريم– وسيظل- قادرًا على أن يمنح المتأملين في آياته وكلماته أشعة من النور، وفيضًا من الهُدى؛ فهو الرسالة الخاتمة، والكتاب المهيمن، والوحي المحفوظ، وحجة الله على العالمين إلى يرث الأرضَ ومن عليها.

 

وإعجاز القرآن الكريم بجوانبه المتعددة، مما شغل العلماء الباحثين في أسرار هذا الكتاب العزيز، والمتدبرين لتوجيهاته ومقاصده.. حتى وصلنا إلى “الإعجاز العلمي”، خاصة بعدما فتح العلم الحديث الطريق لهذا اللون من الإعجاز؛ وإن كان هذا المجال لم يَخْلُ من كتابات لم تنضج بعد، وأرهقت معها الآياتِ وكلَّفتها ما لا تحتمل.

والأستاذ محمد فريد وجدي، وهو أحد المفكرين البارزين الموسوعيين في النصف الأول من القرن العشرين، له طرح جيد حول “إعجاز القرآن”، يستحق أن نقف معه، وأن نفيد منه([1]).

فقد نعى رحمه الله على المتكلمين في إعجاز القرآن أنهم حصروا “كل عنايتهم في بيان الإِعجاز من جهة بلاغته؛ فكتبوا في ذلك فصولاً ضافية الذيول، وبعضهم خصَّها بالتأليف”.. ورأى أنه هذه الجهة ليست هي الجهة الوحيدة لإعجازه، وليست أكثر أوجه الإعجاز تأثيرًا في النفس. فقال: “إننا، وإن كنا يعتقد أن القرآن قد بلغ الغاية من هذه الوجهة، إلا أننا نرى أنها ليست هي الجهة الوحيدة لإِعجازه، بل ولا هي أكثر جهات إعجازه سلطانًا على النفس”.

ثم أخذ يوضح ما دعاه إلى عدم اعتبار الإعجاز البلاغي هو الأهم من أوجه إعجاز القرآن، مبينًا أن “للبلاغة على الشعور الإنساني تسلطاً محدودًا لا يتعدّى حد الإعجاب بالكلام والإقبال عليه، ثم يأخذ هذا الإعجاب والإقبال في الضعف شيئًا فشيئًا بتكرار سماعه، حتى تستأنس به النفس، فلا يعود يُحدث فيها ما كان يحدثه في مبدأ توارده عليها”.

وأضاف: وليس هذا شأن القرآن؛ فإنه قد ثبت أن تكرار تلاوته يزيده تأثيرًا؛ ولكنه تسلّط على النفس والمدارك فوجب على الناظر في ذلك أن يبحث عن وجه إعجازه في مجالٍ آخرَ يكفي لتعليل ذلك السلطان البعيد الذي كان للقرآن على عقول الآخذين به”.

ويبين فريد وجدي أن علة تأثير القرآن وسلطانه على النفس، إنما هي راجعة إلى أنه “روح من الله”؛ فقال: “العلة في نظرنا واضحة لا تحتاج لكثير تأمل، وهي أن القرآن روح من الله تعالى : {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} (الشورى: 52)؛ فهو يؤثر بهذا الاعتبار تأثير الروح في الأجساد؛ فيحركها ويتسلط على أهوائها؛ وأما تأثير الكلام في الشعور فلا يتعدى سلطانه حد إطرابها، والحصول على إعجابها. فقوله تعالى {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} يكفي وحده في إرشادنا إلى جهة إعجاز القرآن، وقصور الإنس والجن عن الاتيان بمثله، وبقائه إلى اليوم معجزة خالدة تتلألأ في نورها الإلهي، وتتألق في جمالها القدسي. ذلك لما كان القرآن روحًا من الله فلا جرم كانت له (روحانية) خاصة هي عندنا جهة إعجازه، والسبب الأكبر في انقطاع الإنس والجن عن محاكاة أقصر سورة من سوره، وارتعاد فرائص الصناديد والجبابرة عند سماعه”.

تأثير “الروحانية”

ثم يوضح فريد وجدي أن هذه (الروحانية العالية) للكتاب الكريم هي التي “قلبت شكل العالم، وأكسبت تلك الطائفة القليلة العدد خلافة الله في أرضه، وأرغمت لهم معاطس الجبابرة والقساورة، ووطأت لهم عروش الأكاسرة والقياصرة؛ حت صاروا ملوك الملوك وإخوان الملائكة في مدة لا يصعب عدُّ سنيِّها على الأصابع: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}”.

وفريد وجدي مع تقريره هذا الرأي الذي ذهب إليه، لا ينكر بالطبع ما للقرآن الكريم من سمو أدبي وبلاغي ومن فصاحة فاقت ما عرفه العرب من فصيح الكلام وبديعه؛ بجانب ما فيه من أوجهِ إعجازٍ أخرى.. فيقول: “لا مشاحة في أن القرآن فصيح قد أخرس بفصاحته فرسان البلاغة، وقادة الخطابة، وسادات القوافي، وملوك البيان. وهو حكيم بهر سماسرة الحكمة والفلسفة، وأدهش أساطين القانون والشريعة، وحيَّر أراكين النظام والدستور. وهو حق ألزم كل غال الحجة، ودلّ كل باحث على المحجّة، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وهو هدى ورحمة ونور وشفاء لما في الصدور”.

ويضيف: كل هذه صفات جليلة تؤثر على العقل والشعور والعواطف والميول؛ فتتحكم فيها تحكم الملك في ملكة، ولكنه فوق ذلك (روح من أمر الله) تصل من روح الإنسان إلى حيث لا تصل إليه أشعة البلاغة والبيان، ولا سيالات الحكمة والعرفان، وتسري من صميم معناه إلى حيث لا يحوم حوله فكر ولا خاطر، ولا يتخيله خيال شاعر”.

فهنا، يعترف فريد وجدي بما للقرآن من البلاغة ومن الحكمة ومن التشريع، غير أنه يرى أن ما للقرآن من روحانية وهداية يفوق ما سوى ذلك؛ فيقول: “إن للقرآن فوق البلاغة والعذوبة والحكمة والبيان (روحانية)؛ يدركها من لا حظّ له في فهم الكلام، وتقدير الحكمة، وإدراك البلاغة. ألا ترى أن الطفل والعامي كيف يعتريهما تهيّب عند تلاوته، ولو بغير صوت حسن؛ حتى إنهما ليكادان يفرِّقان بين ما هو قرآن وما ليس بقرآن فيما لو أراد التالي أن يغشّهما. هذه الروحانية تظهر ظهورًا جليًّا عندما تكون آية من آياته جاءت على سبيل الاستشهاد والاقتباس في صفحة كبيرة؛ فإنك ترى تلك الآية تتجلَّى لك من بين السطور وخلال التراكيب: كأنها الشمس في رابعة النهار؛ مهما كانت درجة تلك الصفحة من البيان، ومنزلتها من جمال الأسلوب وجزالة اللفظ”.

أي أن روحانية القرآن يدركها كل الناس، ويقعون تحت تأثيرها، وليس فقط أرباب البلاغة والفصاحة؛ كما هو الحال مثلاً بالنسبة لإعجازه البلاغي؛ الذي لا يدركة إلا أرباب الفصاحة والبيان.

أوصاف القرآن

وفي هذا المقام، يلاحظ محمد فريد وجدي أن القرآن الكريم بينما وردت أوصاف كثيرة له في آياته، فإن لم يَرِدْ فيه وصفٌ يتصل بناحية بلاغته.. واستدلّ بذلك على أن الإعجاز البلاغي الذي انشغل به العلماء ليس هو الوجه الأبرز من وجوه إعجاز الكتاب العزيز.. فقال رحمه الله:

“أمّا ما ولع به الناس من أن القرآن معجز لبلاغته وتجاوزه حدود الإمكان، حتى وقف ذلك الإعجاز ببلاغته دون وجوه إعجازه الأخرى؛ فلم نقف له على أثر في ذات القرآن، مع أنه قد ورد ذكر القرآن في القرآن في آيات عديدة فلم يرد في واحدة منها ما يوافق ما يذهب إليه الآن الكثيرون؛ فقد وصف الله تعالى كتابه في كتابه فقال: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} {هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ} {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.

ثم يعقّب على هذه الآيات بالقول: “وصف الله كتابه في هذه الآيات بأوصاف كثيرة وليس من بينها واحد يشير إلى بلاغته اللفظية؛ ذلك لأن البلاغة من الصفات الثانوية التي لا يصح أن يتمدَّح بها الله في كتابه. ولو كانت البلاغة في أساس تحديه للكفار بالإتيان بسورة من سوره، أَمَا كان يشير إلى تلك البلاغة، ولو في آية واحدة وقد أتى بعشرات منها في التنويه بحقيَّته وحكمته وروحانيَّته. أليس في هذا إشارة إلى أن وجهَ إعجازهِ غيرُ البلاغة اللفظية”.

نقطتان

هذه كانت رؤية العلامة الموسوعي الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله عن (جهة إعجاز القرآن)، أي عن الأساس في إعجاز الكتاب الكريم.. وفي نقطتين يمكن أن أقول:

الأولى: من المهم الانتباه إلى أن الأستاذ فريد وجدي لم ينكر وجوه إعجاز القرآن الكريم المتعددة، كما فهم البعض.. غير أنه يرى أن (روحانيته) هي الوجه الأبرز والأساس، وهي التي أحدثت التغيير الجذري في حياة العرب.

الثانية: أنني أسمح لنفسي أن أخالف الأستاذ فريد وجدي فيما ذهب إليه من أنه “لو كانت البلاغة في أساس تحديه للكفار بالإتيان بسورة من سوره؛ أَمَا كان يشير إلى تلك البلاغة، ولو في آية واحدة وقد أتى بعشرات منها في التنويه بحقيَّته وحكمته وروحانيَّته”.. ذلك لأن القرآن حين تنزَّل على العرب فإنه جاء من جنس ما برعوا فيه، كعادة معجزات الأنبياء في مجيئها من جنس ما برع فيه المخاطَبون بها.. والعربُ قد برعوا في نظم الشعر، وفصيح الكلام، وبليغ التعبير.. وحين يتحداهم القرآن، فهذا يعني أنه بلغ القمة- بل وفوق القمة- في الجنس الذي برعوا فيه، وهو البلاغة والفصاحة.. فكيف يقال “إن البلاغة ليست هذه الأساس في تحديه للكفار”؟!

مع أننا يجب أن نلاحظ هنا أيضًا، أن العرب لم يبرعوا في الحكمة والفلسفة، ولا في التشريع والتنظيم؛ كالأمم التي سبقتهم.. وإنما برعوا في البلاغة والفصاحة.. وليس معقولاً أن يتحداهم القرآن فيما لم يَبرعوا فيه، ولا فيما لم يُعرفوا به..!

فإذا قلنا إن روحانية القرآن وهدايته هي أكثر جهات إعجاز القرآن الكريم بروزًا وأهميةً، فإن ذلك لا ينفي بالطبع أنه مُعْجِزٌ من وجهِ بلاغته وفصاحته.. غاية ما هنالك أن إعجاز بلاغته وفصاحته يناسب مَنْ برع في ذلك- وهم بالأساس العرب الذين تنزل فيهم- وأن إعجاز روحانيته وهدايته يمتد إلى أشمل من ذلك؛ أي إلى سائر الأمم، من العرب والعجم جميعًا..

ولعل هذا الأمر الأخير- أي الحرص على تأكيد شمول تأثير القرآن، وامتداد هذا التأثير- ما دفع الأستاذ فريد وجدي إلى لفت النظر إلى (روحانية القرآن).. غير أن ذلك ينبغي ألا يكون خَصْمًا من رصيد وجوه الإعجاز الأخرى؛ وإنما يكون إضافة لها، وتأكيدًا على استمرار فاعلية القرآن الكريم في واقعنا وإلى أن تقوم الساعة.

ويمكن لنا أن نقول في الختام: إن القرآن الكريم جاء بالأساس كتابَ هدايةٍ للناس جميعًا؛ لكنه حين تحدَّى العرب فإنه تحدَّاهم بما به عُرفوا، أي بالبلاغة والفصاحة.. وعليه، فَوَجْهُ الإعجازِ البلاغي متحقِّقٌ فيه، وإنْ كان ليس هو الأصلَ في مجيئه وفي خطابه الخالد.


([1]) فصل بعنوان: (جهة إعجاز القرآن في نظرنا)، من موسوعته: (دائرة معارف القرن العشرين)، 7/ 677- 680، دار الفكر، ط3، 1971م.