ألهمت الناشطة الحقوقية والبيئية الكينية وانغاري ماثاي نساء إفريقيا بفكرة أن شعلة الأمل في التغيير، وخروج إفريقيا من نفق التبعية والتخلف تنبثق من الداخل، من قدرة الإنسان على تفجير مُمكناته، وتصميمه على العودة إلى جذوره، وقصة أسلافه، وتوقفه عن استجداء الركوب في الحافلة الخطأ.

بعد مسار أكاديمي متميز، خاضت وانغاري تجربة العمل في مجال حماية البيئة والدفاع عن حقوق النساء. وفي عام 1977 أسست حركة الحزام الأخضر التي بلورت من خلالها فكرة غرس الأشجار لحماية البيئة، والتصدي لمشكلة الجفاف واجتثاث الغابات التي تعاني منها كينيا. وبسواعد النساء نجحت الحركة في غرس أزيد من أربعين مليون شجرة، قبل أن تتوسع ابتداء من سنة 1986 لتشمل خمس عشرة دولة إفريقية.

تتويجا لجهود وانغاري ماثاي في تحقيق سبل عيش آمن ومستدام بالقارة السمراء، ودفاعها عن قضايا المرأة ومبدأ الشفافية في التسيير، نالت وانغاري جائزة نوبل للسلام سنة 2004. وفي كتابها “إفريقيا والتحدي” عرضت وانغاري خلاصة ثلاثين عاما من الأمل، والجهد الدؤوب لكسر الجدار الذي يفصل شعوب إفريقيا عن العدالة والثراء والسلام. وقدمت خبرات وحلولا للأفارقة كي يفكروا ويعملوا لأنفسهم، ويتعلموا من أخطاء الاعتماد على الغير.

في قارة يعتمد أغلب سكانها على الأرض للوفاء باحتياجاتهم الأساسية، تواجه إفريقيا تحديات مرتبطة بالتغير المناخي، وتراجع الموارد الطبيعية التي شكلت مطمعا لقوى الكبرى، إضافة إلى غياب الحكم الرشيد نتيجة عقود من الاستبداد والصراعات العرقية المستمرة.

ومن التدابير التي تقترحها ماثاي لمواجهة تلك التحديات: الانخراط في الديموقراطية على مستوى القاعدة الشعبية، وتعزيز المجتمع المدني، وغرس الحِس الخدَمي لدى القادة الأفارقة لتشكيل هوية خاصة، تقوم على جعل الثقافة وثيقة الصلة بالاحتياجات اليومية. كما يجب أيضا أن تكون البيئة في صميم كل القرارات، حتى لا تظل إفريقيا مجرد قاعدة موارد للتصنيع والتنمية في البلدان الواقعة خارج حدودها.

لقد عانت إفريقيا خلال فترة الإدارة الاستعمارية من انتهاكات عديدة. وبعد قرابة قرن من الاستقلال، لا تزال نموذجا للفشل والفقر، وسوء الأداء الوظيفي. وهي عوامل لا يمكن ربطها دائما بالاستعمار، وإنما بغياب القيادة الصالحة، ومواصلة تدمير الإرث الثقافي والروحي.

في ثنايا الكتاب تشرح وانغاري ماثاي فلسفتها الخاصة باستعادة الروح الإفريقية، من خلال استحضارها للكرسي الإفريقي ثلاثي الأرجل؛ حيث تمثل الرجل الأولى الحيز الديموقراطي ممثلا في احترام حقوق الإنسان والمرأة والطفل والبيئة. وترمز الرجل الثانية للإدارة المستدامة للموارد الطبيعية بشكل يضمن عدالة التوزيع لمن يعيشون اليوم ولمن في المستقبل. بينما ترمز الرجل الثالثة لما تسميه المؤلفة” ثقافات السلام” التي تتخذ شكل النزاهة والاحترام، والتعويض والصفح. إن الأمة التي بإمكانها أن تطور هذه الأعمدة الثلاثة، ستحقق الاستقرار وتحرر شعوبها من مظاهر البؤس الإنساني.

التحدي الثاني الذي ترفعه وانغاري هو التخلص من متلازمة التبعية، وقيود المساعدات وأموال المانحين، لكونها تعمق الشعور الداخلي لدى الأفارقة بدونيتهم، وتلحق ضررا بالغا بقدرة الشعوب على تدبير حلول خاصة لمشكلاتها. فصورة إفريقيا لدى المنتظم الدولي أصبحت قرينة للاحتياجات والمساعدات، رغم أنها تشهد صعودا في حالة التنمية خلال السنوات الأخيرة. وهذا النهج يفضي في النهاية إلى السيطرة على قادة إفريقيا لمصلحة العالم الصناعي.

يتطلب الأمر بداية تجاوز النماذج الكلاسيكية للقيادة، و التخفيف من الاعتماد المفرط على أحد الموارد الطبيعية، ثم إنشاء بيئة مشجعة على الإبداع والابتكار، والاستفادة من المساعدة الفنية التي يتيحها أصدقاء إفريقيا في مجالات العلوم والتكنولوجيا.

إن بعض الاقتصادات الإفريقية تقدم اليوم علامات مشجعة على تجاوز المساعدات نحو الاعتماد على الذات. لكن يظل الهاجس المرعب الذي يهدد كل تلك الجهود هو إرث الصراعات الداخلية الذي يفتح الأبواب لمستعمر جديد قادم من الشرق.

في التحدي الثالث تجدد وانغاري ماثاي تأكيدها على عائق العجز القيادي، وضرورة إنتاج قادة متحررين من أمراض السلطة، وغير خاضعين لضغوط العرقية والمصالح الشخصية. فاستعراض القوة الذي تحرص عليه النخب اليوم مؤشر على انعدام الأمن، وازدياد الحاجة إلى جيل من الفهود الصيادة بتعبير المؤلفة، أي نخبة تقدم نوعا جديدا من القيادة، وتتجاوب مع مطالب الدمقرطة و المسؤولية، والإدارة المُحسّنة.

ومادامت متلازمة التبعية تشكل عنق زجاجة حقيقي للتنمية، فإن إفريقيا بحاجة لإدارة الآلة الاجتماعية، ومنح الفقراء أدوارا للمشاركة في الحكم وصنع القرار، بدل الاكتفاء بدور المراقب السلبي لما يجري حوله. فتوفير مِنَح كاملة للطلبة، وإحداث مشاريع للري وصناديق لتنمية الدوائر الانتخابية، هي مبادرات من شأنها أن تقطع مع الثقافة القديمة للتخلف والفساد، وأساليب القيادة عديمة الكفاءة.

ولا يقل التحدي الثقافي أهمية لقارة تعرض تراثها لأشكال من المحو والإبادة والتغريب. فالثقافة هي الوسيلة التي يعبر بها الناس عن أنفسهم. وإحدى أهم تجلياتها في القارة السمراء هي الثقافة الزراعية، أي مجمل الطرق التي يتعامل بها الإفريقي مع البذور والمحاصيل، والحصاد و المعالجة. إنها السجل الثقافي المنقول من جيل لآخر، والذي يرسم الأبعاد الكاملة للارتباط الثقافي بالبيئة. ومن المؤسف أن الثقافات الأصلية تعرضت في فترة الاستعمار للشيطنة، وترويج نعوت السحر والشعوذة والبدائية لطرق المعيشة التقليدية. لذا، ومن خلال الحلقات الدراسية التي عقدتها حركة الحزام الأخضر لسنوات، حدد المشاركون من القاعدة الشعبية فقدان الثقافة التراثية كسبب للمشكلات اتي يواجهونها، ورغبتهم لاستبطان شعور بالعمل، يتجاوز المصلحة الشخصية، والإشباع الفوري لاحتياجاتهم.

إن استعادة الروح الإفريقية رهين كذلك باستيعاب العلاقة المركبة بين الهوية العرقية والدولة الإقليمية. فالأفارقة مرتبطون بما تسميه المؤلفة” دولا مجهرية”، أي المجتمعات العرقية التي تختلف حدودها الطبيعية والنفسية عن الدولة القومية التي أنشأتها القوى الاستعمارية. بموجب هذا الانتماء يتمكن القادة من التفريق بين مواطنيهم، والسيطرة عليهم، والاحتفاظ بالبلد في قبضة الفساد. وللخروج من هذا المأزق تحتاج إفريقيا إلى خلق ثقافة وطنية شاملة، تغرس الشعور بالمسؤولية الجماعية بين المواطنين، وتدافع عن التنوع والتعدد في مقابل الإقصاء.

أما التحدي الأخير فمرتبط بمحورية البيئة في خطط التنمية، وحل الإشكالات المتعلقة بالقطاع الزراعي ومنظومة الطاقة والاستغلال الغابوي. وفي هذا السياق تعرض المؤلفة تجربة حركة الحزام الأخضر التي انبنت مشروعاتها على تحقيق معادلة التنمية في إطار بيئة مستدامة، تتصدى للاحترار العالمي.

إفريقيا تناقُض، تقول المؤلفة، فهي واحدة من أغنى القارات، لكن معظم أهلها فقراء. وهنا يبرز تحد آخر قلما اهتم به الباحثون؛ فبخلاف الموارد الطبيعية لم يحظ الإفريقي نفسه بالتقدير. ويؤدي عدم تمكين الأشخاص العاديين إلى بروز مشكلات خطيرة. لذا تظل كل التحديات السابقة قائمة مالم يُوجِد القادة الظروف التي تستطيع شعوبهم في ظلها أن تكتسب الثقة، والكرامة، والإحساس بالذات.

إنه رهان تؤمن المؤلفة بقدرته على أن يُسمعَ صوتَ إفريقيا الطَموح، بعد عقود لم يسمع العالم خلالها سوى صدى إيقاعاتها الموسيقية. تقول ماثاي: ” دعونا نمارس روحانيتنا ونرقص رقصاتنا، ونُحيي رموزنا، ونعيد اكتشاف شخصيتنا المشتركة. ومن دون أعمال التجديد الثقافية هذه، نكون مجرد ضحايا الموضة.. في عالم مجرد من العمق أو المعنى، ونكون ضعفاء أمام أي شخص يريد استغلالنا”.