مع ما يدعو للحَيرة والذهول للوهلة الأولى من هذا العنوان الصادم، فقد رغبت ألا أحيطه بما يخفف هذا الذهول حتى أضع القارئ العزيز على حقيقة بلغت حد اليقين عن قضية تعمد الكثيرون تغافلَها، مع وقوع الشك في نفوسهم تجاهها.

 

لم يك «ابن مالك» الطائي الجيانيّ الأندلسيّ صاحب الألفية الشهيرة في النحو، المتوفى 672من الهجرة شخصية مغمورة، لكنه صاحب اليد الطولى في النحو وإليه ينسب الفضل في تقنين قواعده وترتيب أبوابه ونظم قواعده في أبيات بلغ حد شهرتها المدى.

ترددت كثيرًا في كتابة هذه السطور غير أن شيئًا في النفس دعاني لقراءة الكتاب الذي رغبت عن قرائته لزمنٍ، وقد حداني الشوق إليه، وكلي أمل أن أتبين حقيقة هذا العَلَم دونما تحيزٍ أو تجريحٍ.

«فيصل بن علي المنصور» واضع كتاب “تدليس ابن مالك في شواهد النحو” تعرض لهذه القضية الشائكة التي حاكت في صدر العلماء قديمًا دون أن يلجوها وآثروا طيها والسكوت عنها، ما يحجزهم إلا

مهابتهم لــ «ابن مالك» وإجلالهم له من جهة، وكراهيتهم أن يفتحوا بابًا يلجه المزرُون بالنحو الطاعنون في علمائه، من جهة أخرى.

وإن كنت أرجح هذا المسلك وأحبذ هذا الصنيع؛ فغرضهم في ذلك شريف، لكني أعتذر إليهم بأن ينظروا إلى “النحو” لا إلى “الناحي”؛  فلا ريب أن الحياطة في جناب نقاء العلوم وصيانتها من التدليس أولى من الحياطة في صيانة أعراض الأشخاص، وإن علت منزلتهم وارتفع قدرهم.

وقبل أن أسرد تفاصيل القضية بأدلتها، أنوه إلى غرضي من هذا فلم يكن أبدًا النيل من الرجل فهو المبرَّأ  أولاً، صاحب التصانيف الموفورة والأقوال المأثورة له منا كل أدبٍ جميلٍ، لكنه العلم يفرض نفسه بقواعده على البسيطة حتى تتلاشى أمامه الألقاب وتتضاءل الأشخاص؛ فالعلم له صيانة، لاسيما إن تعلق بصيانة كتاب الله من التحريف وتعلقت به المعاني الشريفة؛ فإلى النحو يرجع استبانة مذاهب العرب ولغاتهم وحدود اتساعهم وضروب تصرفاتهم؛  فلابد إذًا من ضبطه ويلزم إزاء ذلك العمل على نقائه دونما حاجة للتجريح ورغبة في النيل؛ فحسن الظن ليس هذا مجاله.

لم تك محاولة «فيصل بن علي» هي الأولى في مجال البحث في قضية (تدليس ابن مالك) الشائكة، فقد سبقه إليها غيره؛ أشهرهم: «نعيم البدري»، صاحب كتاب: “صناعة الشاهد الشعري عن ابن مالك الأندلسي”، غير أنها دراسة يعتورها القصور؛ فقد رمى «ابن مالك» بالكذب في غير ذي موضع من غير دليل أو برهان، وما كان له أن يُقدِم على ما فعل لينال من شخصية مهابة دون بينة، حمله على هذا استعجاله النتائج؛ فقصر النظر في الدليل، فلا يقبل له قول بغير برهان، فقد وقع بذلك في الغلط ورُد عليه في أكثر من موضع أساء فيه وأخطأ في جناب صاحب الألفية، وما كانت محاول «فيصل المنصور» إلا تكملة لما بُدئ غيره؛ ليصحح ما وقعوا فيه من أخطاء معضدًا ما يذكر بالدليل، موضحًا غرضه من الكتاب، فيقول عن نفسه في مقدمته:”معاذ الله أن يكون غرضي الطعن في ابن مالك، أو الغضّ من قدره، فهو بلا شك عالم جليل، وركن باذخ من أركان النحو. وقلّ رجلٌ تعلم النحوَ بعده إلا وله في عنقه منّةٌ، غير أن الحق أكبر من الجميع”.

وضع «فيصل بن  علي المنصور» كتابه “تدليس ابن مالك في شواهد النحو- عرضٌ واحتجاجٌ” في أربعة فصول، وتلخيص، وخاتمة.

تعرض في الفصل الأول لذكر أدلة الوضع بالتفصيل، وقسّمها إلى قسمين؛ أدلة السند وتشمل دليل التفرد، ودليل النسبة. أما القسم الثاني فيشمل أدلة المتن وتضمن دليل اللفظ، ودليل المعنى.

ودليل اللفظ يشمل الألفاظ المولدة، تكرار الألفاظ، قلة بعض الظواهر المعروفة في الشعر الصحيح، واجتماع ما لا يجتمع في الغالب إلا صناعة.

بينما يتضمن دليل المعنى شيوع المعاني الدينية، وانحصارها في معانٍ محدودة، ورداءة بعض المعاني، وغثاثتها، وتساوق المعاني، واستقلال الأبيات بالمعاني.

ثم انتهى بعد ما سرد، لكل ما سبق دليلا، إلى الحكم على ابن مالك وأفرد له الفصل الثاني، أما الفصل الثالث فذكر فيه أثر الأبيات في النحو في مبحثين؛ أثرها عند ابن مالك، وأثرها فيمن بعده من النحاة.

ثم سرد في الفصل الرابع الأبيات التي تفرد بها «ابن مالك» سواء أبياتًا منسوبة إلى الوضع (أشعار وأرجاز)، وهذا هو القسم الأول.

أم أبياتًا غير مقطوع بوضعها (أشعار وأرجاز)، وهو القسم الثاني.

وبعد ذلك عمد إلى تلخيص ما ذكر، خاتمًا كلامه بما انتهى إليه بحثه  من النظر.

والذي يهمنا من الكتاب أن نذكر طرفًا من أدلته، مع تنوعها، ثم لنخلص معه إلى ما انتهى إليه من نتيجة.

فلقد ذكر في دليل التفرد أن «ابن مالك» تفرد بأبيات لم يُسبق إليها، ولم يُعلم مصدرها مع سعة اطلاع معاصريه وحاجتهم لمعرفة ذلك؛ فإذا أعملنا المنطق فإن الأبيات التي تفرد بها لا تعدو احتمالين؛ إما أن يكون قد جمعها من كتب النحاة، وهذا يعني أنه سُبق إلى الاحتجاج بها، وإما أن يكون هو من انتزعها من بطون الكتب والدواوين.

والاحتمال الأول مردود كون كتب النحو مطبوعة، حتى ذكر الذهبي موقف العلماء من أبيات «ابن مالك»، قائلا: “يتحيرون فيه، ويتعجبون من أين يأتي بها”.

كما أن الاحتمال الثاني مردود لأنه يستلزم أن يكون قد اطّلع على اثني عشر ألف بيت لم يطّلع عليها أهل عصره ولا من سواهم وفيهم من هو أمس منه رحمًا بالشعر وأوعب له منه، وهذا غير سائغ، فضلا على أنه لو استخرجها لنسبها لقائليها، كما يفعل في الأبيات الصحيحة الثابتة، وكمثال على ما سبق في مسألة التفرد بالأبيات؛ فإنه في مسألة إعمال (لا) عمل ليس اختلف العلماء ما بين مؤيد ورافض، ولم يجد الذين أجازوا في كلام العرب شاهدًا صريحًا على إعمالها مع ظهور خبرها، حتى قال رضي الدين الإستراباذي:”ولم يوجد في شيء من كلامهم خبر (لا) منصوبًا كخبر (ما)، و(ليس)”. فمن أين أتى «ابن مالك» إذًا بالبيتين الآتيين:

 تعزَّ، فلا شيءٌ في الأرض باقيًا      ولا وزرٌ من ما قضى الله واقيًا

وقوله:

 نصرتُك إذ صاحبٌ غيرَ خاذلٍ      فبِّوئت حصنًا بالكماةِ حصينًا

يقول «ابن حيَّان» تعليقًا على هذا الاستشهاد: “لا يحفظ من نثر أصلاً، ولا في نظم إلا في هذين البيتين”.

إذًا، فلزم أن يكون «ابن مالكٍ» واضعهما.

ومن الأدلة التي اعتمد عليها مصنف الكتاب، دليل النِّسبة، وهي نسبة الأبيات إلى قائليها؛ فالأبيات التي ذكرها «ابن مالك» كلها مجهولة النسب إلا ثلاثة وأربعين بيتًا منسوبة إلى “الطائي”.

و«ابن مالك» نفسه كمثل غيره من العلماء يقرر قاعدة راسخة إذ يقول عن بيتٍ غير أبياته: “فلا حجة فيه لشذوذه؛ إذ لا يعلم له تتمةٌ، ولا قائل ولا راوٍ عدل يقول: سمعت ممن يوثق بعربيته والاستدلال بما هو كذا في غاية الضعف”، ومثل هذا قاله البغدادي: “ويؤخذ من هذا أن الشاهدَ المجهولَ قائلُه وتتمَّتُه إن صدر من ثقة يعتمد عليه قُبِلَ، وإلا فلا”.

وينبي على هذا أن «ابن مالكٍ» مستوجب للشك فيما ذكر من الأبيات التي ذكرها، وهي نحو سبعمائة بيت مجهولة إلا ثلاثة وأربعين نسبها.

فلو أنه واضعها لنسبها أو نسب أكثرها كما يفعل في البيت الصحيح، وثمّ دليل أوضح ذَكَرَه المصنفُ في هذا الصدد وهو أن جميع ما نسبه «ابن مالك» من أبيات إنما نسبها إلى «الطائي»، أو إلى قبيلى «طيئ»، فأين ذهبت إذًا قبائل تميم، وهُذيل، أسَدٍ، وبكر وغيرها وأين ذهبت أشعارهم.. فليس لهذا تفسير غير أنه هو واضعها وتركها أَغفالاً غير منسوبة، ونسب بعضها للطائي يريد نفسه؛ فهو طائي النسب، غير أنه لم يذكر ذلك تصريحًا.

وفي دليل المعنى، ذكر «فيصل المنصور» أن للمعاني دلائل على قائليها وشواهد على أربابها؛ فهي تسفر عن شمائلهم، وتميز بعضهم من بعض. وقد وجدنا في أبيات استشهاد «ابن مالك» طرفا لهذا؛ حيث شاع لديه استخدام المعاني الدينية شيوعا لم يألفه الجاهليون على أن هذه المعاني الدينية التي ذكر لا يطرقها إلا إسلامي متأخر واعٍ للقرآن بصير بأحكامه وشرائعه، فقد غلب العلم فيها على الشعر فتراه ينقلب واعظًا فيأمر بالوفاء بالعقود في مثل قوله:

فِه بالعقود، وبالأيمانِ، لا سِي يَما   عقدٌ وفاءٌ به من أعظمِ الُقرَبِ

متمثلاً قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ”.

ونراه متأثرًا بالقرآن يحذّر من البغي مذكرًا بعاقبة عادٍ وثمود، فيقول:

    مُدمنُ البغي سوف يأخذه با     رِيهِ أخذَه ثمودَ، وعادًا

وقد تأثر في قوله:

ومن يقترب منّا، ويخضعَ نُئوِه      ولا يخش ظلمًا ما أقام، ولا هضمًا  

بقوله تعالى:”وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا”.

ويرجز قوله:

  ألآكل المــــــالَ اليتيــمِ بَطَــــرًا

            يأكل نارًا وسيصلَى سَقرَا

من قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا”.

وفضلاً على تأثره بالنصوص الشريفة، فقد حصر نفسه في معانٍ لا يفتأ تكرارها ولا يمل تردادها منها الفخر والنجدة والقوة والشجاعة وإغاثة الملهوف ووصف الخليلِ الحق بذلك، ومثال هذا:

أيّا نؤمنك تأمن غيرنا، وإذا لم      تدرك الأمن منا لم تزل حذرا

وقوله:

قهرناكمُ حتى الكماةَ، فإنكم    لتخشونَنا حتى بنِينا الأصاغِرا

وقوله:

وما خُذَّلٌ قومي فأخضعَ للعِدا      ولكن إذا أدعوهمُ، فهمُ همُ

وقوله:

نصرتُك إذ لا صاحبٌ غيرَ خاذل    فبُوِّئتَ حصنًا بالكماةِ حًصينا

وأشباه هذا التكرار في المعاني كثير.

ومن أدلة الوضع في المعاني أيضًا، كما ذكر «فيصل بن علي المنصور»، غثاثتها حتى تأتي باردة لا روح فيها؛ إذ يوحي هذا بأن قائلها ليس من همَّهِ توليد المعاني واختراعها وإنما همُّه الاستشهاد ولا يعني هذا بالطبع الغض منها ولا النيل من سلامتها إنما المراد أنها معروفة جوابّة، وقد وجدنا الأقدمين من الشعراء إذا عرضوا لأمثالها لا يخلو ذلك عندهم من صورة طريفة أو نكتة مستملحة، وذلك مثل قوله:

ما شاءَ أنشأ ربي، والذي هو لم     يشأ فلستَ تراهُ ناشئًا أبدا

وقوله:

عملاً زاكيًا توخَّ لكي تُجـــ        زى جزاءًا أوفى، وتُلفَى حمَيدا

ومن أمثلة تساوق المعاني الذي اعتبرها مصنف الكتاب عيبًا يدل على تدليسه «ابن مالك» قوله:

أيا أبتا، لا زلتَ فينا عندنا فإنما     لنا أملٌ في العيش ما دمتَ عائشا

بعد أن جاء بقول الأعشى:

       فيا أبتا، لا تزل عندنا    فإنما نخاف بأن تُختَرمْ

وبعدما ساق مصنف الكتاب الأدلة مشفوعةً بالأمثلة، جمع همّته وأفرد جهده للحكم على «ابن مالك»، محتملا ثلاثة أقوال في ذلك؛ فإما أن يكون «ابن مالك» لم يضع هذه الأبيات إلا استئناسًا وتمثيلاً ولم يذهب بها مذهب الاحتجاج، وهذا الاحتمال لم يثبت عنده المنصف بالنظر، فهو مردود كون «ابن مالك» لم يذكر ذلك ولا ألمح إليه في بيت واحد من أبياته السبعمائة، كما أن جميع من جاء بعده من العلماء لم يفهموا غير كون هذه الأبيات جاءت على سبيل الاحتجاج لا الاستشهاد؛ ومن هؤلاء ابنه «بدر الدين»، وتلميذه «ابن جماعة»، وغيرهما الكثير، على أن «ابن مالك» نفسه حاول تدليس المخاطب وإيهامه في غير ذي موضع أن هذه الأبيات من الشعر القديم لنسبتها لرجل طائي حينًا، وإيهامه أنها لقائل قديم أحيانًا أخر.

والاحتمال الثاني: أن تحكم على الرجل بالكذب كونه لم يَصدُق الناس ولم يعرفهم الحقيقة، غير أن هذا الاحتمال أيضًا لا يمكن التسليم به، فالحكم عليه بالكذب باطل؛ إذ إن الكذب مخالفة الخبر للواقع و«ابن مالك» لم يأت شيئًا من ذلك، وإلاّ كان خليقًا ألا يدع أبياته أغفَالًا ولنسبها لأشخاص بأعيانهم وما أعوزه أن يختلق أسماءهم، لكنه لم يفعل.

بقي الاحتمال الثالث والذي رجحه «فيصل بن علي المنصور» مصنف الكتاب، وهو القول بالتدليس؛ والتدليس مخالف للكذب ذلك أن التدليس يكون في لفظ له معنيان أحدهما مخالف للواقع وهو القريب من فهم السامع بالقرائن، والآخر موافق للواقع لكنه بعيد عن فهم السامع. فمن يستعمل هذا اللفظ مع علمه أن السامع لا يفهم إلا المعنى القريب غير المراد هو مدلِّس، وهو ما فعله «ابن مالك».

والتدليس لاشك خصلة ذميمة، فواجب العلماء أن يبيّنوا للناس الحق ويشرفوا بهم على غامضه من غير هياب ولا تجمجم.

ولا يكبرن عليك، القارئ العزيز، رميه بالتدليس فقد وقع فيه غيره جماعة من صلحاء رواة الحديث، كالحسن البصري وسفيان الثوري، كما ذكر بعض المؤرخين، وما يخفف من وطأة الحكم على هؤلاء الأشاوس الأفذاذ أن التدليس، مع وضاعته، يُتأول فيه ما لا يُتأول للكذب من جهة أنه لا يخالف الواقع من كل وجه.

وينبي على ما ترجح من حكمٍ، سقوط الاحتجاج بهذه الأبيات وما انبنى عليها من ترجيحات، وهذه النقطة تحديدًا، إن صح ما ذهبنا إليه من التدليس، هي الأجدر بالدراسة، والأولى بالعناية، لكن ما يطمئن أن هذه الأبيات لم يبتدع فيها «ابن مالك» شيئًا من الأحكام، فقط أوهم من بعدَه بأنها من الشعر الذي يحتج به، فاتكئوا عليها في ترجيح بعض الأقوال والتمييل بين المذاهب.