إنَّ الأخلاق في الإسلام:

1- فطرية: لها ضابط حسَّاس في ميزان المؤمن الدقيق، ونفسه الطَّيِّبة المحبَّة للفضيلة، الكارهة للرذيلة: «البرُّ حسنُ الخلق، والإثم ما حاكَ في نفسكَ، وتلجلجَ في صَدْرِكَ، وكرهتَ أن يطلعَ عليه الناس، استفتِ قلبكَ ولو أفتاك الناسُ وأفتوك»([1]) والمعروف ما قال عنه الشرع والعقل السليم: إنه حق وحلال وحسن، والمنكر ما قال عنه الشرع والعقل السليم: إنه باطل وحرام وقبيح.

ولدى الإحصاءات العالمية تبين أن 75٪ من الملتزمين للفضائل المجتنبين للرذائل: إنما فعلوا ذلك لإيمانهم بالله، وخوفهم من عقابه يوم الحساب، وأملهم برضوانه وثوابه ونعيمه. وأن 10٪ فعلوا ذلك رغبةً منهم بالقيم والمثل والفضيلة، وهؤلاء يُضافون إلى من قبلهم، لأن هذه الرغبة في نظري هي أثر من آثار الفطرة الإلهية في الإنسان:

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم: 30]

(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات: 7]

وأن 15٪ فعلوا ذلك خوفاً من عقاب القانون والسلطة في الدنيا، وهذا ما يؤكد ضرورة العناية بالتربية الدينية في جميع مراحل الدراسة الابتدائية حتى الجامعية، وفي أجهزة الإعلام كلها كماً وكيفاً؛ لتأصيل مكارم الأخلاق ورفيع الأذواق في نفوس الناشئة والخاصة والعامة، مما ينشر الأمن والأمان، والإيمان والإسلام، والسلم والسلام، في ربوع المجتمعات؛ ليحقق المدينة الفاضلة التي ينشدها الحكماء والعلماء والفلاسفة، والتي وضع قواعدَها الرسلُ والأنبياء الكرام.

2- شاملة للفكر: «لا يكن أحدكم إمَّعة: إن أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا أساء، ولكن ليوطدْ نفسَه إن أحسنوا أن يحسنَ وإن أساؤوا أن لا يسيء»([2]). ولقد ذكر القرآن الكريم أن من أسباب دخول جهنم مسايرة أهل الفساد، والانجراف معهم في تيار الانحراف، والخوض معهم فيما لا يجوز ولا يليق:

(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر: 42-47] أي: الموت. فما العاقبة؟:

(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 48]

3- شاملة للسلوك: من لم تنهه صَلاتُه عن الفحشاء والمنكر لم يزددْ بها من الله إلا بُعْدًا»([3]).

4– شاملة للقلب:

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88-89]

وقال من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة: «أبيتُ وليس في قلبي غشٌّ لأحدٍ ولا حقدٌ على أحد»([4]).

5- واقعية: لا تطلب من الإنسان الكمال التام، ولكنها تطالبه بالسعي في طريق الكمال ما استطاع: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]

وعلى الرغم من خطورة الكذب، وأنه من علامات النفاق، فقد أباحته في ثلاثة مواضع:

  • على العدو في الحرب، لأن الحرب خُدْعة، ومن شأن العدو الكذب والمخادعة، فلا بد من مقابلته بمثل سلاحه وأشد للتغلب عليه، ومنع غدره ومكره وظلمه.
  • للإصلاح بين الزوجين، أو بين أفراد الأسرة ولتجنب الشقاق والطلاق.
  • بين متخاصمين، ليحلَّ بينهما الوئام مكانَ الخصام، وفي الحديث الشريف: «ليس الكذَّاب الذي يُصلح بينَ الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً»([5]) شريطة أن لا يفتري، ولا يتهم، ولا يشهد زوراً، ولا يضيع حقاً.

6- تراعي الجانب العاطفي: فالنفس جُبلت على حب الأفضل والأجمل والأحسن والأنظف والأكمل والأبَرِّ، فالوالدُ لا يملك إلا أن يُفَضِّلَ في قلبه ولدَه البار به على من سواه ممن يعقُّه أو يعصيه، وكذلك الزوج مع زوجاته، ولكن على الأب والزوج أن يعدلَ في العطاء والنفقة والحقوق المادية بين الجميع وإلا كان ظالماً، والإنسان يملك أن يعدلَ في الأمور المادية، ولكنه لا يملك قلبه أن يعدل فيه بينَ من يُحسن ومن يُسيء. وفي الحديث الشريف: «اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك وتملك»([6]).

وعلى الزوج أن يتئدَ في عواطفه نحو إحدى زوجاته؛ لئلا يَحيف على غيرها: (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) [النساء: 129]

ومن طريف ما روت كتب الأدب أن أباً زوَّجَ ولدَه الكبير، ودفعَ له مؤنة الزواج كاملةً، ولم يزوج ولده الأصغر، وأرجأ ذلك، واعتذر بأعذار واهية، فكتب الولد الثاني لأبيه يقول:

ليس لي بعد إلهي مُشتكًى إلا إليك وأخي في الفضل مِثلي وكلانا في يَديْك لا تفضِّلْه عليَّ بالحَبا في ناظريْك إن منحتَ العينَ كُحْلاً هَاجَتِ الأُخرى عَلَيْك إِنَّما ابناكَ كعينيْك فكَحِّلْ مُقلتيْكَ

فتبسَّم من قوله، وزوَّجه كأخيه.

7- تجمع بين مصالح الدنيا والدين والآخرة على نسق واحد، وصراط مستقيم:

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77]

وما من أمر حرَّمه الله إلا لأنه مفسد وضار، ولكنه تعالى أباح ما هو خير وأبقى في ساحة الفضائل والصيانة والبناء، وفي الحديث الشريف: «وفي بضعِ أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته – أي مع زوجته – ويكتب له بذلك أجر؟ قالَ: أرأيتُم لو وضعَها في حَرام أليس عليه في ذلك وزرٌ؟ قالوا: بلى. قال: كذلك إن وضعَها في حلال فله بذلك أجر»([7]).

8- تفرِّق بين الصغائر والكبائر: فالصغائر تُكفِّرهَا العبادات والحسنات:

(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114]

أما الكبائر فلا بد لتفكيرها من الإقلاع التام عنها، مع الندم وعقد العزم على عدم العودة إليها، ولا بد من أداء الحقوق لأصحابها في ساحة التوبة النصوح الطهور، على أنه ينبغي تجنّب الصغائر أيضاً، والحذر من تكاثرها وكثرتها، فإنها تقضي عندئذ على صاحبها، كما يقضي ثقبُ السفينة الصغير – إن أهمل – على ركابها جميعاً.

9- تفرّق بين المجاهرة والمساترة في الذنب: فكلُّ ذنب حرام، والمذنب مؤاخذ به، معاقبٌ عليه إن لم يتب ويصلح من حاله، ولكنَّ المجاهرة بالذنوب والافتخار بها دليل انعدام الحياء، والانطواء على نفس خبيثة تتحدى الحقَّ والقيم، ولذا كان عِقَاب المجاهرة بالذنب أشد من عقال المساترة فيه. وفي الحديث: «كل أمتي مُعافى إلا المجاهرينَ، وإن المجاهرةِ أنْ يعملَ الرجلُ بالليل عملاً فيصبح وقد ستَرهُ الله، فيكشف سترَ الله عليه»([8]). وفي الحديث دعوة خفية إلى أن يكونَ ما يجري بين الزوجين مستوراً قولاً وعملاً، وأن يبقى في طي الكتمان، وراء ستار مسبل من الصيانة والحياء، لا يطَّلع عليه أحد، فإنَّ من الكبائر أن يكشف أحد الزوجين سترَ وسرَّ الآخرِ.

10- تفرِّق بين مكان ومكان: فالمعصيةُ كشرب الخمرة مثلاً كبيرة من الكبائر في أي مكان، لكن عقوبتها تُضاعف أضعافاً كثيرة حين تكونُ في أماكن العبادات، أو مواسمها، أو في الدِّيار المقدسة كمكة المكرمة، أو شهر رمضان:

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25]

أي: من يعص الله أو يقم بذنب – متعمداً – في المسجد الحرام فله عذاب أليم.

11- عالمية الأخلاق: فالمسلم المؤمن مطالب أن يكون أديباً وأسوة وقدوة مع المسلم وغيره، فهو سفير يُمثِّل دينَه أينما ذهب. فإن سافرَ للتجارة فهو تاجر أمين، أو للعلم فهو طالب أديب، أو للنّزهة فهو سائح شريف. يرى فيه الغرباءُ خيرَ قدوة وأحسنَ أسوة، فيتقدون ويصلحون، وإن أقامَ في بلده فهو المواطنُ المستقيم. والنصوصُ واضحة الدلالة على دعوة المسلم والمسلمين لإصلاح العمل والقول مع الناس جميعاً، مسلمين كانوا أو غير مسلمين.

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83]

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة: 60]

(وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) [القصص: 77]

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [الشعراء: 183]

وفي الحديث الشريف: «اتقِ الله حيثما كنتَ، وأتبعِ السَّيئةَ الحسنةَ تمْحُهَا، وخالق النَّاسَ بخلقٍ حَسَنٍ»([9]).

ولعل خير ما نختم به هذا الموضوعَ أن نشير إلى قول ابن القيم رحمه الله: «مدارُ حُسن الخُلُق مع الخَالق والخَلْق: كنْ مع الخالق بلا خَلْق، ومع الخَلْق بلا نَفْس» ففساد العقيدة ينشأ من توسط الخَلْق بين العبد وخالقه، وفساد الخُلق ينشأ من توسط النفس وشهواتها وأطماعها بين الإنسان وبقية الناس، فإذا عزلت الخلقَ وأنت تعبد ربك، أخلصت له العبادة والتوحيد فنجوت. وإذا عزلتَ النفسَ وأنت تعاملُ الناسَ عطفتَ ورحمتَ وأنصفتَ، فنجوتَ:

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9-10]

(قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام: 91]

وأختم بقول طاغور، وقد أضفت إلى القصيدة البيتَ الأخير من عندي:

لاقيتُ من بعد اغترابٍ أسرتي بفؤادِ صَبٍّ عامِرِ الأشواقِ نظرَ الشقيقُ فقالَ أين هديَّتي فمنحتُه بُشرى وطيبَ تَلاقِ وإذا بوالدتي تُسَائلُ ما الذي أُهدي لها مِن بعدِ طُول فِرَاقِ فمنحتُ في برِّ الودادِ يمينَها قُبَلَ النسيم العَذْبِ للأوْرَاقِ ورنتْ إليَّ الزوجُ قلتُ هديَّتي أَنِّي حفظتُ على النَّوى مِيثاقِي وإذا السَّماء تقولُ أينَ هَديَّتي سأقولُ إنَّ هَديَّتي أخلاقي وإذا الجِنَانُ تقولُ أين هديَّتي سَأَقولُ إِخْلاَصِي إلى الخَلاَّقِ

([1])  رواه أحمد ومسلم والترمذي.

([2])  رواه الترمذي.

([3])  رواه الطبراني.

([4])  رواه أحمد.

([5])  رواه البخاري.

([6])  رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

([7])  رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

([8])  رواه البخاري ومسلم.

([9])  رواه الترمذي.