يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [التحريم: 1، 2].

يستعمل القرآن الكريم ألطف الألفاظ وأرقها في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفيما يلي جملة من الأساليب الرقيقة التي استخدمت في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمن ذلك:

أ- في عتابه بشأن حادثة عبد الله بن أم مكتوم، جاء العتاب في سياق الغيبة لتخفيف وطأة المعاتبة على نفسه، كما أن في توجيه العتاب المباشر مواجهة تجريح وإزالة لحاجب التقدير والتكريم، والتدرج من الغيبة إلى الخطاب تهيئة للنفس لاستقبال الموقف.. ولإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه – صلى الله عليه وسلم – مثله[1].

يقول تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 1 – 16]

ب – وكذلك في عتابه بشأن أخذ الفداء من أسرى بدر، جاء العتاب بصيغة الغيبة أولاً، وبذكر إباحة ذلك لهم مباشرة ثانيًا، ولم يكتف النص على الإباحة بالأكل من الغنيمة بل وصفه بالحلال الطيب وختم الآية بالنص على المغفرة والرحمة لئلا يبقى أثر لتحرج النفس وفي كل ذلك تخفيف من وطأة العتاب وشدته على نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، يقول تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67 – 69].

جـ- وفي معاتبته بعد الإذن للمنافقين بالتخلف يوم العسرة، قدّم لفظ العفو قبل ذكر العتاب تكريمًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – جل شأنه: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43].

د-  وجاء تنبيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تركه ذكر المشيئة ﴿ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ في سورة الكهف بعد أن أجاب عن الأسئلة الموجهة إليه والتي كانت مجال الإرجاء فعندما سألته قريش بتحريض من اليهود أن يخبرهم عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وكان من أمرهم عجب وأن يخبرهم عن رجل طواف في الآفاق وكان من أمره عجب… قال لهم إيتوني غدًا وسأخبركم بذلك ولم يستثن فلبث الوحي بضعة عشر يومًا حتى أرجف أهل مكة….

فلم يعاتبه بترك المشيئة أو تذكيره بها إلا بعد الإجابة عن قصة أهل الكهف وفي نهايتها ذكره بها بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 23- 24].

وهذا منتهى التلطف والتكريم والتنبيه على أمر ينبغي أن يكون الأمر عليه، ولو نبهه أولاً ثم أجاب على الاستفسارات لتوهم الإعراض عنه، ولربما لم يزل أثره بفرح الحصول على الإجابة، وفي ذلك إلحاق غم وكمد بقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. أما إذا جاء الجواب أولاً وتمت الفرحة والبشارة بالحصول على الجواب، وأثناء الابتهاج سيق التنبيه بأسلوب لطيف لم يترك العتاب والتنبيه أثرًا يذكر.

هـ- وفي هذه السورة جاء العتاب لطيفًا رقيقًا في غاية الترفق فقد افتتح العتاب بندائه بوصف النبوة، وفيه من التشريف والتكريم والتطمين على أن ما يذكر بعد لا يؤثر على مقامه العالي فهو النبي المكرم.

ولو بدأه بالعتاب فقال ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ ﴾، لفرق قلبه عليه الصلاة والسلام ولترك أثرًا كبيرًا ولو جاء الترفق بعد ذلك، وهذا أسلوب الحبيب الذي لا يريد إلحاق أي هزة عاطفية في قلب حبيبه مهما كانت الهزة مغلفة بالأساليب الرفيقة الرقيقة.

ثم يأتي العتاب في صيغة سؤال تلطف ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ ومن الأمور المخففة لآثار العتاب ذكر السبب الدافع لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا التحريم ﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ﴾، وبيان أن هذا السبب غير معتبر في الامتناع والتحريم فالغيرة ليست مما يجب مراعاته بين الأزواج إذ لم يكن هضم لحقوقهن، فهناك من الأشياء الدافعة للغيرة ينبغي أن لا يؤبه لها. وعذر النبي – صلى الله عليه وسلم – في فعله هو جلب رضى الأزواج، وهذا من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام معهن، لكن الغيرة التي نشأت بينهن إنما هي معاكسة بعضهن بعضًا، وهذا مما يخل بحسن العشرة بينهن، فأخبره الله أن اجتهاده هذا غير معتبر وعاتبه على ذلك.

ثم أزال آثار هذا العتاب عن نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بتذييل الآية بذكر المغفرة والرحمة فعتاب الله لرسوله دليل على مزيد العناية والاهتمام به، والله ساتر لما أوجب المعاتبة رحيم يدفع المؤاخذة. ثم أصبح الحكم عامًا فيمن حلف، فرض الله له تحلة اليمين، وتحلة اليمين ذكرت بالتفاصيل في سورة المائدة: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ [المائدة: 89].

 

ففي كل ذلك إزالة لآثار ما قد يعلق في النفس من كدورة بسبب العتاب. ولله في كتابه أسرار وعبر.

و-  وهناك نوع آخر من العتاب الشديد الموجه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مباشرة ويختلف في الأسلوب عن الألوان السابقة في العتاب وذاك في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 37- 39].

هذا الأسلوب في العتاب يختلف في الشدة والعنف عن الأساليب السابقة، وذلك لأنه يتعلق بأمر تبليغ أحكام الله ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾.

ولذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “لو كتم محمد – صلى الله عليه وسلم – شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله شيئًا لكتم ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾[2].

ونظرًا لخطورة قضية التبليغ وما يتعلق بها فقد أعقبت الآية الشديدة بآية أخرى فيها تعليل ودفاع عن موقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إخفاء قضية زواجه بزينب بعد طلاق زيد لها، فإنه كان مأمورًا من الله تعالى بأن يزوّج زينب من زيد بن حارثة، وقد أعلمه الله أنه سيتم الطلاق وستكون زينب زوجًا له – صلى الله عليه وسلم – وذلك قبل اقتران زيد بها. وذلك لإبطال عادة التبنّي التي ما كانت لتنتهي بسهولة من المجتمع لولا هذه الهزة العنيفة بتطبيقها عمليًا في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

فجاء قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾.

فالرسول في ذلك يطبق أمر الله، وسنة الله في الأنبياء والمرسلين أن يكونوا أول من يلتزم بشرائع الله وأحكامه ويطبقونها على أنفسهم وعلى من تحت ولايتهم، كما تأتي الآية اللاحقة لتبين دور الرسل وأنه الالتزام والتبليغ ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾.

وهو في نفس الوقت تبرير وتوضيح وتعليل فيكون بتقديم الآية التي نصت على قضاء الله سبحانه وتعالى وقضاء رسوله الذي ينفي الخيرة للمؤمنين والمؤمنات وتعقيب الآيات المبينة لسنة الله في الرسالات وبيان مهمتهم في التبليغ، يكون في كل ذلك تبرير وتعليل لما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إخفاء الأمر في نفسه وخشية الناس وكلامهم أن يقولوا إن محمدًا تزوج بزوج متبناه.

ومع كل ذلك فإن آثار هذا العتاب كان باديًا على تصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتطبيقه لأمر الله سبحانه وتعالى فما أن طرق سمعه قوله تعالى: ﴿ .. فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ حتى سارع إلى الزواج بزينب ولم ينتظر جوابها.

روى الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال”: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لزيد بن حارثة (اذهب فاذكرها علي) فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يذكرك، قالت ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي عز وجل فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدخل عليها بغير إذن”[3] الحديث.

يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ وكان الذي تولى تزويجها منه هو الله عز وجل بمعنى أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر[4].

إن الأساليب القرآنية في بيان الهدايات والتشريعات تتنوع حسب مقتضيات المواقف وإحداث الأثر في نفوس المخاطبين وهذا التنوع جزء من الإعجاز البياني للقرآن الكريم.

* مصطفى مسلم


[1] روح المعاني للآلوسي (30/ 39)

[2] انظر الحديث في مسند الإمام أحمد (3/195)

[3] انظر صحيح مسلم كتاب النكاح (4/148)

[4] انظر تفسير ابن كثير (3/491)