نقصد بالتراث الفقهي والمذهبي نشأة حركة “المذاهب الفقهية“، والتي كانت تطبيقا عمليا لممارسة التعددية الفكرية في الواقع الإسلامي، وهذه الحركة الفقهية بلا شك مثلث مرحلة مهمة في إرساء قواعد “التعددية الفكرية” في أصولها ومبانيها الرئيسية.

التراث الفقهي “التعددية الفقهية”

تضمنت المنظومة الفكرية الإسلامية مناهج وأفكار شتى تعالج المواقف والحوادث المستجدة انطلاقاً من قاعدة “صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان” وكذلك قاعدة “المرونة” و”السعة”، وأنتجت المدارس الفقهية قواعد شتى لمجابهة الأسئلة المستمرة من الواقع المعاش، وقد اختلفت هذه المدارس باختلاف مبانيها الفكرية التي استندت إليها، بل أثر الوضع الديمجرافي في المدرسة الواحدة عندما ينتقل مؤسسها من مكان إلى مكان (مثل مدرسة الشافعي في بغداد ومصر).

ويرصد الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- بعضاً من أسباب هذا “الاختلاف و”التعددية الفكرية”، ومنها:

1- الطبيعة اللغوية.. فهناك كلمات تفيد الشئ وضده فإذا قال تعالى: [وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (البقرة: 228)، فإن الفقهاء قد يختلفون في تحديد معنى “قرء” أهو الحيض أم الطهر؟

واختلافهم في تفسير كلمة “لامستم” [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرضي أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا] (النساء: 43) عند إحصاء دواعي التطهر- هل اللمس المراد أي لمس؟ أو هو لمس خاص؟

وقد يختلفون في معنى الأمر الوارد في النص: هل هو للوجوب أو للندب؟ كالأمر في قوله تعالى: [فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] (الطلاق: 2).

2- أحاديث الآحاد ودورها في التشريع.. وقد نقل عن ابن تيمية عشرة أسباب للخلاف الفقهي ودور أحاديث الآحاد فيها وهي:
أ- ربما لا يبلغ الحديث الفقيه المجتهد، فإن الأحاديث كثيرة والإحاطة بها متعذرة.
ب- قد يبلغ الحديث الفقيه، ولكنه يرفض سنده لعلل قادحة فيه، وربما بلغ غيره بسند أجود فيأخذ به والخلاف بين العلماء في تقويم الرجال وبالتالي قبول المتن أمر شائع.
جـ- من الفقهاء من يشترط في قبول خبر الواحد شروطاً لا يوافقه غيره عليها، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو اشتراطه أن يكون المحدث فقيهاً.. إلخ.[1]

د- اعتقاد ضعف الحديث لفكرة خاصة، فإن كثيراً من الحجازيين مثلاً يرون ألا يحتجوا بحديث رواته عراقيون أو شاميون إن لم يكن لهذا الحديث أصل بالحجاز.
هـ- أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ولكنه نسيه.
و- وقد يكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين الحقيقة والمجاز.
ز- اعتقاد الفقيه أن لا دلالة في الحديث علي ما يراد.
ح- وقد تتساوي الدلالات المختلفة في إفادة معان كثيرة، ويصعب ترجيح وجهة على أخرى.
طـ- قد يكون الفقيه – مع جودة حفظه واستنتاجه- قد أخطأ في تقرير المقدمات التي انتهت بالنتيجة التي ارتآها.
ي- وأخيراً فإن من الفقهاء من يرد الحديث الصحيح إذا خالف القياس الجلي، ومنهم من يرده إذا كان عمل أهل المدينة المنورة على خلافه، فإن عملهم أدل على السنة من خبر الواحد.

وقد بلغ تعداد المذاهب الفقهية التي نشأت في ضوء الأسباب السابقة إلى ما يزيد على عشرة مذاهب ظل يعمل بالكثير منها حتى اليوم، ومنها:
1- مذهب أبوحنيفة النعمان (80هـ- ت150هـ).
2- مذهب مالك بن أنس (93هـ- ت 179هـ).
3- مذهب الإمام الشافعي (150هـ- ت 204هـ).
4- مذهب أحمد بن حنبل (164هـ- ت 241هـ).
5- المذهب الزيدي (زيد بن علي) (80هـ- ت 122هـ).
6- المذهب الجعفري (جعفر الصادق) (80هـ- ت 148هـ).
7- مذهب الأوزاعي (88هـ- ت 157هـ).
8- مذهب سفيان الثوري (97هـ- ت 161هـ).
9- مذهب الليث بن سعد (ت 175هـ).
10- مذهب داود الظاهري (200 هـ- ت 270هـ).
11- مذهب ابن جرير الطبري (ت 310 هـ).

وهناك مذاهب أخرى اندرست لم نعرفها ولم ينشرها أصحابها ولا تلامذتهم، ولم يجدوا من الحكام من يتبنى مذهبهم فيعمل على نشره وإذاعته بين الناس.

وقد تراوحت الاختلافات الفقهية في نوعية وترتيب الأدلة الشرعية وإن كانت كل المذاهب تتفق علي أسبقية الكتاب والسنة وصدارتهما لكل الأدلة، إلا أن الاختلاف كان في الآليات التي يمكن أن نستنبط منها الحكم هل بظاهر النص؟ أم بتأويله؟ هذا فيما يتعلق بالوحي، أما الأدلة الأخرى فتراوحت بين العمل بالرأي كما عند أبي حنيفة، إلى الإجماع عند مالك، والقياس عند الشافعي، وفتوى الصحابي عند أحمد بن حنبل.

وباستقراء كتب أصول الفقه نجد أن “التعددية الفقهية” أنتجت ما يقرب من تسعة أدلة يمكن من خلالها إصدار الأحكام الفقهية، بينما لم تتجاوز هذه الأدلة على عهد النبي وصحابته اثنين أو ثلاثة ولكنها تطورت وفقاً لعوامل: “الحرية الفكرية”، و”المكان والزمان” فأصبحت بعد الوحي (الكتاب والسنة) تسعة أدلة وهي:

1- الإجماع، ويعني: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- علي حكم شرعي في واقعة ما.

2- القياس: وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.

3- الاستحسان: هو العدول عن قياس جلي إلي قياس خفي أو استثناء مسألة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة لدليل يقتضي هذا العدول.

4- المصالح المرسلة: هي المصالح التي لم يشرع الشارع أحكاماً لتحقيقها، ولم يقم دليل معين علي اعتبارها أو إلغائها.

5- سد الذرائع “الوسائل”: ويعني سد الوسائل والأفعال والطرق المؤدية إلى الشر والفساد أو فتح الوسائل والأفعال والطرق المؤدية إلي المصالح والإصلاح.

6- العرف: هو ما اعتاده الناس وساروا عليه في أمور حياتهم و معاملاتهم من قول أو فعل أو ترك بما لا يخالف الشرع، أما العرف الفاسد فلا خلاف بين الفقهاء علي تركه وعدم الاعتبار له..

7- مذهب الصحابي: ذهب بعض الفقهاء إلي أن قول الصحابي حجة يجب اتباعها وللمجتهد أن يتخير من أقوال الصحابة ما يراه أقرب إلي الكتاب والسنة.

8- شرع من قبلنا: وهي الأحكام التي شرعها الله تعالي لمن سبقنا من الأمم وأنزلها علي أنبيائه ورسله لتبليغها لتلك الأمم.

9- الاستصحاب: ويعني الحكم ببقاء الشئ علي ما كان عليه في الماضي حتى يقوم الدليل علي تغييره, أو هو بقاء الحكم الثابت في الماضي حتى يقوم الدليل علي تغيره.

ويحصي الطوفي (ت 716هـ) تسعة عشر دليلاً عند الفرق الإسلامية جميعاً “أولها الكتاب، وثانيها السنة، وثالثها إجماع الأمة، ورابعها إجماع أهل المدينة، وخامسها القياس، وسادسها قول الصحابي، وسابعها المصلحة المرسلة، وثامنها الاستصحاب، وتاسعها البراءة الأصلية، وعاشرها العادات، الحادي عشر الاستقراء، الثاني عشر سد الذرائع، الثالث عشر الاستدلال، الرابع عشر الاستحسان، الخامس عشر الأخذ بالأخف، السادس عشر العصمة، السابع عشر إجماع أهل الكوفة، الثامن عشر إجماع العترة عند الشيعة، التاسع عشر إجماع الخلفاء الأربعة.[2]

إن اختلاف الفقهاء كان علامة مضيئة في تاريخنا الإسلامي وهو نتاج واضح لأصل “التعددية” و”الحرية” و “التنوع” الذي أقره الإسلام متمثلاً في الوحي، وقد صدقه الواقع في أقرب شئ إلى الإسلام وهو “التشريع”، هذا لا ينفي بالطبع “الصدمات” و”الصدامات” المقلقة التي نشأت على هامش هذه الحرية الفكرية التي عاشها العقل الإسلامي حوالي ما يقرب من أربعة قرون.


[1]  محمد الغزالى: دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، القاهرة، دار الشروق 1997، ص: 44: 51 بتصرف.

[2] نجم الدين الطوفي: “المصلحة في الشريعة الإسلامية”، رسالة الإسلام، السنة الثانية، العدد الأول، يناير 1950م ص: 94 .