في لحظة نادرة ومدهشة من تاريخ الإنسانية كان “أنطوان فان ليفينهوك”[1] Anton van Leeuwenhoek ينظر بمجهره على رقيقة من الزجاج، وإذا به يُفاجأ بكم ضخم من الكائنات الحية تعيش على ذلك السطح، يكتشف أن هناك شركاء آخرون في الحياة لم تكن تعرف البشرية عنهم شيئا قبل تلك اللحظة، فتحت مشاهداته الأعين والعقول على عوالم من البكتريا والجراثيم والفيروسات لم تكن تتخيل البشرية وجودها، رغم تأثيرها الكبير في حياتها أمراضا ومنافع، ووقع العلماء في حيرة كبيرة أين يضعوا تلك الكائنات الجديدة في ظل التقسيم الثنائي للأحياء بين مملكتين هي: الحيوانية والنباتية.

انشغل البشر بالعلاقات بين الكائنات الحية منذ فترة طويلة، فكتب عنها “أرسطو” قبل ألفي عام، ووضع مخططا أسماه “سلم الطبيعة” Ladder of Nature ، ثم تحول السلم إلى شجرة، كان أرسطو يتصور وجود نوع من الترقي في الكائنات الحية من البسيط إلى المعقد، ويرى البعض أنه لو قُدر له أن يعيش عشر سنوات أخرى لتحدث عن مفهوم التطور الذي تناوله “تشارلز داروين” بعده بثمانية عشر قرنا.

تضع البيولوجيا حكايات لنشأة الكون، تناظر الفيزياء في نظرية “الانفجار الكبير” وتلخصها في أن  الكائنات الحية أقارب من أصغر البكتريا إلى الحوت الأزرق الضخم، فالكائنات يربطها ميراث مشترك يمكن تتبع أصوله، وهو ما قد يقودنا إلى أصل الحياة وبدايتها.

والحقيقة أن الحديث عن الأصل المشترك هو حديث طرأ في العلم قبل أربعين عاما، وحول حقيقة هذا التقارب يتحدث كتاب “الأقرباء: كيف تعرفنا على صلات القرابة بين الميكروبات وسواها من الكائنات[2] للبروفيسور “جون إل.إنغراهام” John L. Ingraham ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي، والصادر عن سلسلة “عالم المعرفة”  فبراير 2020م، في 287 صفحة.

النشأة البيولوجية

يظن العلماء أن بداية الحياة على الأرض كانت قبل (4.6) مليار سنة، وفي الفصل العاشر طُرح تساؤل محير، وهو: كيف بدأ كل شي؟

وأجاب الكاتب: لا ندري، وربما لن نعرف ذلك أبدا.

 أصل الحياة، إشكالية حيرت العلماء وتنوعت فيها إجاباتهم، ووصلت إلى الزعم بأن الحياة بدأت في مكان آخر، ثم انتقلت إلى الأرض، وأسموا النظرية بـ “التبزر الشامل” Panspermia[3]..لكن هؤلاء لا يتكلمون عن كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ تم الانتقال إلى الأرض، وهناك نظرية “البِركة الصغيرة الدافئة”[4] Warm pool theory عام 1871م التي طرحها “داروين”، وحتى الآن ليس هناك سيناريو مقبول حول أصل الحياة وبدايتها، وهو ما أكده الفسيولوجي “جاك لوب” Jacques Loeb  بقوله:”لا يمكننا التجريب علي الماضي” فالسؤال يتعذر الإجابة عنه جوهريا في المختبر.

لم تتطور طرق التفكير الجديدة بشأن نشأة الحياة إلا بعد نبذ النموذج القديم “فكرة التولد العفوي[5] التي  امتدت من “أرسطو” عام 343 قبل الميلاد مع كتابه “توالد الحيوان“، إلى أواخر القرن التاسع عشر، فمع  زوال الفكرة بشكل منهجي عن طريق التجريب المدروس مع “فرانشيسكو ريدي” Francesco Redi عام 1668م، توالت الانتقادات؛ بل خصصت “الأكاديمية الفرنسية للعلوم” جائزة لأي شخص ينتقد الفكرة، ونجح “لويس باستور” في الحصول عليها عام 1862م [6].

البكتريا..والبداية

شجرة الحياة تشير إلى حقيقة مذهلة وهي أنها تتكون في معظمها من الميكروبات، أما النبات والحيوان فيشكلان اثنين فقط من أغصانها ، ورغم ذلك تتباين الميكروبات بشدة فيما بينها من حيث البنية والنشاط، ورغم أن البكتريا تستهدفها المنظفات المنزلية باعتبارها مصدر الأمراض، لكن لا يعرف الكثير أنها تقدم خدمات عظيمة لكوكب الأرض، فهي تهيمن بشكل كبير على شجرة الحياة.

تلعب الميكروبات دورا حيويا في الحياة الإنسانية، فأنشطتها مسؤولة عن إنتاج كلا من الأكسجين والنتروجين، فالميكروبات مسؤولة عن صنع أكثر من 90% من الغلاف الجوي الذي نعيش فيه، فالنتروجين يُنتج في الغلاف الجوي حصريا من قبل الميكروبات، وتواصل تجديده وتثبيته باستمرار، فقبل مائة عام كانت الميكروبات تنتج  الغالبية العظمى من النتروجين المستخرج من الغلاف الجوي، أما تثبيت الـ 10% الأخرى فكانت ناتجة عن ضربات الصواعق، وعندما تدخل الإنسان لتثبيت النتروجين في أوائل القرن العشرين، أحدث أضرارا بيئة ضخمة، فعندما صنع الكيميائي الألماني “فريتز هابر” Fritz Haber ، ثم “كارل بوش” Carl Bosch النتروجين  وجعلوه في صورة يمكن أن يستخدمها النبات وهو ما عرف بالأسمدة الآزوتية، زادت المحاصيل الزراعية، إلا أن إطلاق نواتج تثبيت النتروجين بطريقة صناعية إلى المياة في مناطق الغرب الأمريكي أدى إلى ظاهرة “التتريف” أو فرط المغذيات eutrophication والتي يحدث فيها نمو مفرط لكائن على حساب كائنات أخرى، فحدث نمو واسع وقوي للطحالب، والتي امتصت الأكسجين المذاب من المياه، وانعكس ذلك على عدم قدرة الأسماك على التنفس.

ورغم استيلاء البشر على نصف التثبيت في دورة النتروجين فإن تجديده لا يزال حكرا على الميكروبات، ولذلك لا يمكن لغيرها تحويل النتروجين المثبت إلى شكله الغازي، ويعد المحافظة على مستويات النتروجين في الغلاف الجوي مجرد مثال على اعتمادنا على الميكروبات، ولا يمكن للبشرية أن تستمر بدون وجود الميكروبات، فهي التي تجعل الأرض قابلة للحياة.

وينصح الكاتب بأننا إذا عرفنا وفهمنا شجرة الحياة وموضع الميكروبات فيها، زاد احتمال تمكننا من التنبؤ بسلوك الميكروبات، فمثلا “البصمة البكتيرية” التي بدأ الحديث عنها عام 2010 يمكن أن تستخدم كدليل مثل بصمات الأصابع في الطب الشرعي، إذ  لم يتشارك أي شخص مع آخر في أكثر من 13% فقط من أنواع البكتريا الموجودة على أيديهما، ومن ثم يمكن تحديد هوية الشخص من خلال البكتريا التي على يديه، ويشير العلماء أن هذا التميز في البكتريا الموجود على البشرة يتشابه مع رائحة الإنسان التي تستطيع الكلاب من خلالها تمييز شخص عن آخر، فالميكروبات أصبحت تحدد الهوية، فجسم الإنسان يتكون من ( 37 ) تريليون خلية، بينما تعيش مع الإنسان أكثر من (100) تريليون خلية بكتيرية، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف عدد خلاياه.

أما الفيروسات فلم تدرج على شجرة الحياة، لافتقارها إلى الخاصية التي تعرف الكائنات الحية فهي ليست خلايا، حيث تفتقر الفيروسات لتوليد طاقتها الأيضية، وإلى طرق التوالد الذاتي، ورغم ذلك يصعب تجاهل الفيروسات في شجرة الحياة لوفرتها المذهلة وتأثيرها الكبير على الأحياء، فالفيروسات هي المصدر الرئيسي للوفيات، ويعرفها “بيتر ميدور” Peter Medawar الحائز على جائزة نوبل، بأنها ” قطعة من الأخبار السئية المغلفة في بروتين“، فهي معلومات وراثية مشفرة بالحمض النووي، لكن تظل الفيروسات لغزا كبيرا.

في الصفحة الأخيرة من الكتاب وبعد رحلة عميقة وممتعة من المعرفة العلمية يخلص إلى حقيقة أننا “مازلنا لا نعرف أصل الحياة”  كما أن “معرفة شجرة الحياة لا يساعد في فهم كيف بدأت الحياة” ، فهناك مرواغة من الإجابة على سؤال الخالق سبحانه وتعالى، فالحياة والكون والكائنات هي من فيضه، ومن ثم فالجواب عن أصل الحياة كامن  في صحيح الأديان التي تُرجع أصل الحياة وبدايتها إلى إرادة الخالق، فالبداية كانت من السماء وليس تطورا أو تفاعلا أرضيا يستطيع العلم الإمساك بحقيقة ما جرى فيه، لذا كان الفلاسفة المسلمون يعتبرون “وحدة الخلق” أحد أدلة إثبات وجود الله سبحانه وتعالى.


[1] أنطوني فان ليفينهوك ( (1632 – 1723باحث وعالم هولندي اخترع أول مجهر ضوئي بسيط

[2] عنوان الكتاب باللغة الانجليزية: Kin: How We Came to Know Our Microbe Relatives

[3] تقول نظرية “البانسبيرميا” أو “التبذر الشامل” بأن”بذور الحياة موجودة في جميعِ أرجاء الكون، وإن الحياة على الأرض من الممكن إنها أتت من تلك البذور”

[4] كان تشارلز داروين أول من اقترح نظرية “البركة الدافئة الصغيرة” Warm pool theory  حول كيفية تطور الخلايا البدائية الأولى، وأشار إلى أن المواد الكيميائية البسيطة في المسطحات المائية الصغيرة أو الضحلة، قد تشكل تلقائيا مركبات عضوية في وجود طاقة من الحرارة أو الضوء أو الكهرباء من الصواعق.

[5]  نظرية التولد التلقائي Spontaneous generation يقصد بها فرضية نشأة الحياة من مواد غير حية مثل المركبات العضوية البسيطة. ويعتقد القائلون بها أنها حدثت على الأرض في الفترة قبل 3.8 إلى 4.1 مليار سنة.

[6] الطريف أن “باستور” صنع قوارير تشبه عنق البجعة وأوجد فيها منحنى على شكل حرف S ووضع فيها مرق اللحم، ومازال على حالة حتى الان أي بعد 150 سنة خالية من الميكروبات