ترتبط أبعاد الأمن الاجتماعي في الأدبيات الغربية على تحصيل القوة وحماية هوية الدولة، وحماية المكتسبات أو تحقيق الرفاه والتنمية للإنسان، وهي بلا شك مقاصد منيفة لا يختلف اثنان في أهميتها، غير أنها لا تعدو مجالا ماديا، فإن هذه النظرية انطلقت من رؤية مادية محضة، لكن في هذا المقال نحاول تسليط الضوء على بعض المجهودات التي عنيت بالأمن الاجتماعي من المنظور الإسلامي، ونسعى في عرضها وتقريبها لعله يخلق لدي الشاب المسلم التصور الكامل المنضبط عن الأمن وتحقيقه في مجتمعه، ولعل ذلك ينعكس على صلاح المجتمع والدولة التي يعيش فيها، لا سيما أن الجانب المادي الذي برز فيه الغرب بنظريات مختلفة تركت شرخا واضحا في المجتمع الإسلامي بأفراده وشعوبه.

إن مقاييس المكتسبات المادية التي تتمحور حولها نظرات الأمن عند الغرب تحدث اضطرابا شديدا في أخلاق الأفراد والشعوب المسلمة، قد ولّد عند البعض الشعور السلبي من الوضع المزري الذي يعيشه المسلمون من التخلف في كل الأصعدة، حتى يصل به إلى الضعف واليأس والفراغ الروحي، فهو حينا يطارد هواجس المادة والسرعة والرفاه التي يتفوق فيها الغرب، والبعض الآخر يستسلم للرهانات المادية حتى يعيش في أمن بائس، والشاب المسلم في كلتا الحالتين مهزوز الهوية ضعيف البنية مهترئ أمام التيارات المادية.

الحديث عن الأمن الاجتماعي من النظرة الشرعية والبحث عن مقوماته في الشأن العام يعين الفرد المسلم والمجتمع على استعادة العافية، وتقويم حاله الذي ناوشه الهوان في جميع مجالات الحياة، ويجعله ينتظم في ترتيب أولوياته بدءا بالتحقيق الأمن النفسي فالأسري انتهاء إلى الأمن المجتمعي، وذلك وفق أسس ومبادئ إسلامية ثابتة. وسيركز هذا المقال على نتائج علمية وصلت إليها الدراسات الخاصة بمجال الأمن المجتمعي ومقوماته كل ذلك من منظور شرعي. ونبدأ بالتعريف المختصر للأمن المجتمعي ثم أهميته، ثم بيان المقومات الشرعية للأمن الاجتماعي.

المحور الأول – الأمن الاجتماعي في الإسلام ومستوياته:

الأمن الاجتماعي هو الطمأنينة التي تنفي الخوف والفزع عن الإنسان، فرداً أو جماعة، أي أن يكون المجتمع المسلم، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا. ويستوعب هذا الأمن كل شيء مادي ومعنوي، فهو حق للجميع أفرادا وجماعات، مسلمين وغير مسلمين، محتويا على مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض المطلوب شرعا المحافظة عليها.

ويمكن تعريف الأمن الاجتماعي حسب النظرة القرآنية بأنه (اطمئنان يجده الفرد وما يمنع خوفه في حاضره، ويمنع قلقه على مستقبله، ويحرص على تبادله مع الآخرين عبادة لله، بممارسة ذاتية منه يحقق بها مشاركة إيجابية مجتمعية وحضورا فاعلا، وبممارسات وواجبات منوطة بالحاكم يكلف بها مؤسسات عاملة في المجتمع، وبرقابة ومتابعة من النظام السياسي لتحقيق غاية خلق الله للإنسان ومقاصد الشريعة”[1].. ويستكشف من هذا التعريف عدة أمور منها:

– أن الاطمئنان حالة شعورية نفسية تتبع الإحساس بالأمان

– حالة متحققة في الواقع المعيش فهو استقرار وهدوء.

– بالأمن يحصن الفرد من مهددات جسمية ودينية وأخلاقية ومالية وكل ما يتعلق بحياته في الدنيا.

– الأمن وفق هذا المفهوم مسؤولية جماعية وإن كانت تبدأ فردية، لانعكاس نتائجه على المجتمع المتمدد فإن أمن الأفراد يترك أثرا إيجابيا على أخلاق المجتمع وسلوكياته.

– الأمن الاجتماعي وتوفيره مظنة لكسب الأجر من الله حين يربط الفرد أو الموظف مهمته بالطاعات.

– أن ترسيخ الأمن الاجتماعي في الأمة مرتبط بالحاكم أو النائب عنه، فيراعي: حفظ الدين على أصوله، تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وإقامة الحدود ، وحماية حدود بلاد المسلمين.

وبالنسبة إلى الشطي فإن مفهوم الأمن في استعمال القرآن الكريم والسنة النبوية لا يخرج عن التعريف السابق، ويتفق مع مفهوم الطمأنينة والسكينة وانتفاء الخوف، وحيث قرن الله سبحانه في مواضع كثيرة بين الأمن والإيمان ففيه إشارة أن أحدهما دليل هادٍ للآخر،  كما أن الله عز وجل هو مصدر الأمن الحقيقي. وحسب هذا الاستعمال الشرعي فإن الأمن يمثل مفهوما شاملا يتناول أمن الفرد دنيويا وأخرويا، وأمن الدولة داخليا وخارجيا، بل ويتعدى ذلك إلى أمن العالم والكون بعضه إلى بعض؛ فالإنسان في نظر الإسلام هو جوهر العملية الأمنية وهو محور الأمن الداخلي والخارجي؛ لأنه مناط التكليف في هذه الحياة الدنيا دون غيره من سائر المخلوقات[2].

ولو أردنا تجلية هذا المصطلح بالطريق الواسعة التي يتعامل معها الاستعمال الحديث حتى بات مادة علمية حضارية يشغل الشأن العام، واتسع ليشمل مفاهيم ومضامين متعددة منها الإصلاح الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتحقيق العدل والمساواة والحرية، والكفاية الاقتصادية وغيرها مما لها علاقة مع حاجة الفرد في الحياة، فإننا سنجد توسعا رهيبا لدي علماء المسلمين القدماء، واعتبر أن السبق في توسيع هذا المفهوم يرجع إلى المسلمين الأوائل[3].

فقد حدّد الماوردي قواعد صلاح الدنيا وانتظام عمرانها بستة أشياء هي : ” دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح”[4].

ويضيف الماوردي معلقاً على القاعدة الرابعة فيقول: “وأما القاعدة الرابعة فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر به الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس به الضعيف فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة … فالخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفيهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم، وانتظام جملتهم، والأمن المطلق ما عمّ”[5].

وهذا الكلام يؤكد حقيقة أن الأمن الفردي مرتبط بشكل أساسي مع الأمن الاجتماعي، بل لا يمكن تصوره بمعزل عن الآخر لذلك فإن الأمن في المفهوم الإسلامي يشمل الأفراد والجماعات والمجتمع.

وأبو حامد الغزالي من طرف آخر ركز على جانب الأمور الروحية والنفسية والمعنوية التي يحتاجها الفرد لتحقيق الاستقرار الأمني والهدوء النفسي، وهذا بمحاذاة جانب الحاجات المادية التي سبق ذكر نموذج منها من كلام الماوردي، بل يربط الغزالي ضرورة توفير الجانب المادي والمعاش بتحقيق الأمن الديني والروحي للإنسان في هذه الحياة، يقول الغزالي: ” فإن نظام الدين لا يحصل إلا بانتظام الدنيا، فنظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن”[6].

ثم يقول حجة الإسلام الغزالي : ” ولعمري إن من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه ، وله قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ، فلا ينتظم الدين إلا بتحقق الأمن على هذه المهمات الضرورية ، وإلا من كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة ، وطلب قوته من وجوه الغلبة ، متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة ؟ فإذن بان أن نظام الدنيا أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين”[7].

وفي كتاب “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، سجل محمد الغزالي تجربته الشخصية مؤكدا على ما سبق نقله من الإمام الغزالي، يقول: لقد رأيت – بعد تجارب عدة – أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة ، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، إنه من العسير جداً أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التقوى إذا كان جسده عارياً، إنه يجب أن يؤمن على ضروراته التي تقيم أوده كإنسان ثم ينتظر أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان، فلا بد من التمهيد الاقتصادي الواسع والإصلاح العمراني الشامل، إذا كنا مخلصين في محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين أو راغبين حقاً في هداية الناس لرب العالمين”[8].


[1]  علان، علي، الأمن الاجتماعي في الشريعة الإسلامية “المفهوم والمقومات”، مجلة البحوث والدراسات، العدد (9)، السنة 12، 2015م. صفحة 15.

[2]  الشطي، بسام، تحقيق الأمن الإجتماعي في الإسلام : مسؤوليات .. و أدوار، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الكويت، 24، العدد (77)، 2009، (21 – 103). صفحة 15.

[3]  التميمي، عماد؛ التميمي، إيمان، الأمن الاجتماعي ضبط المصطلح وتأصيله الشرعي، بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي في كلية الشريعة جامعة آل البيت، 2012.

[4]  الماوردي، علي، أدب الدنيا والدين (133)، دار مكتبة الحياة، 1986م.

[5]  المصدر السابق (142).

[6]  الغزالي، أبو حامد ، الاقتصاد في الاعتقاد (128)، دار الكتب العلمية، لبنان، تحقيق عبد الله محمد الخليلي، الطبعة: الأولى، 1424 هـ – 2004 م.

[7]  المصدر السابق.

[8]  الغزالي، محمد ،  الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية، القاهرة ، 1987م ، ص61 – 62 .