مضى أكثر من قرن على أفكار مدرسة الإصلاح والتجديد الذي أرسى دعائمها الإمام “محمد عبده“، ومازالت حيرة الشيخ وأفكاره، وتساؤلاته، وأطروحاته، تشغل الأذهان، وكأن التجديد لا يريد أن يجدد في أفكاره، فمنذ عقود وسؤال التجديد في خفوت، تعيد الأقلام والصفحات طرح الأفكار التي تلقت الصدمة الأولى في اتصالنا مع الغرب، وتطرح نفس الإجابات على إكراهات التحديث، حتى بدا أن الإشكالات الكبرى في التجديد لم تعد جديدة في طرحها، كما أن إجاباتها لم تفِ بحاجات التحديث، فمازالت الأقدام ترتفع وتنزل في مكانها دون أن تبرحه، ومازالت الأعين تتلمس أسئلة السابقين.

ولعل ذلك يعود في بعض جوانبه إلى أن الغرب خفت بريقه وتوهجه، فخفتت معه الأسئلة الكبرى في التجديد والإصلاح والنهوض، كما الغرب بات  تحديا تكنولوجيا وليس أيديولوجيا، فصار سؤال التحديث متعلقا بالآلة وليس بالعقل؟

وفي محاولة لاستعادة سؤال التجديد والإصلاح وإشكالاته وتجلياته وأزماته، جاء كتاب “النهوض العاثر: الإصلاح والتجديد في الأزمنة الحديثة: المشارب والتجارب” للدكتور محمد حلمي عبد الوهاب، والصادر عن “المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة، في طبعته الأولى مايو 2020 في (464) صفحة.

الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام، هي: إصلاح مؤسسات المجال الديني، وتجارب الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي، والعيش المشترك وقضايا الأقليات الدينية، وتحوي الأقسام الثلاثة تسعة فصول، منها: من ينهض بمهمة الإصلاح؟ مناهج التعليم الديني الأزهري، المرجعيات الدينية وإدارة الشأن العام، ومفهوم النهضة في فكر مالك بن نبي، وتيارات التجديد والإصلاح في شبه القارة الهندية، والجدال في شأن الدين والدولة في الأزمنة الحديثة، والخبرة الأندلسية في العيش المشترك، والتقريب بين المذاهب الإسلامية.

الإصلاح الديني

كان الشيخ أمين الخولي يقول :”أول التجديد قتل القديم فهما وبحثا ودراسة“، من السمات الرئيسية لرواد الإصلاح والتجديد في العصر الحديث، قدرتهم البارعة على التفرقة من داخل الإسلام بين مكونين أساسيين، وهما: المعطى العقدي التعبدي، وبين المعطى الدنيوي، وهما معطيان مختلفان من حيث الطبيعة والخصائص والغاية، لذا كانوا يتحدثون عن الإسلام وفق ثلاثة ركائز أساسية، هي: القرآن الكريم: كنص مؤسس، والسنة النبوية: كنص شارح، وعصر السلف الصالح: كنموذج للتطبيق.

والحقيقة أن الإصلاح الديني كان مدخلا للنهوض والتجديد الحضاري، وسادت رؤية: أن الإصلاح الديني يجب أن يكون مظلة لإصلاح كل شيء،  وكان من مفاتيحه:

ــ عدم الاطمئنان والرضا عن المفاهيم والأفكار والمناهج السائدة في الفكر العربي والإسلامي وقدرتها على النهوض الحضاري.

ــ أصبح الآخر الغربي مشكلة داخل الفكر الإسلامي المعاصر نتيجة للاستعمار والتغريب والسياسات الغربية.

ــ ترسخ ثقافة الهزيمة في الوعي العام ووعي كثير من النخبة بما يعيق إنتاج خطاب ديني يجدد الوعي الحضاري.

يقصد بإصلاح المجال الديني: “إصلاح الجوانب الفكرية والثقافية والسلوكية والممارسات التعبدية، والجوانب المؤسسية، وما يرتبط بها من وضعية الرموز الدينية في المجال العام، وموقف المجتمع الديني من القضايا العامة”، ومن ثم فإصلاح المجال الديني مجال وميدان واسع والعملية ليست فجائية أو فردية، ولكنها عملية تراكمية ومؤسسية.

كانت غاية الشيخ محمد عبده هي تعبئة وعي الأمة، من خلال تعبئة وعي النخبة المثقفة المتأثرة بالغرب ليؤكد أن الإسلام لا يتعارض مع الحداثة، وذلك ظنا منه أن تلك النخبة هي التي سيؤول إليها الحكم والسيطرة في غالب العالم الإسلامي، وأن الخطر الأكبر أن تنظر تلك النخبة إلى الإسلام نظرة قاتمة من خلال مقولات بعض العلماء التقليديين الذين يقدمون الإسلام بصورة صدامية مع الغرب، ومن ثم سعى الشيخ إلى تأكيد التوافق بين الإسلام والفكر الغربي المعاصر، فجاء خطابه مستطبنا للحداثة والقيم الإسلامية، لذا تبدو مقولات الأفغاني ومحمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين اكثر حداثة من مقولات عدد من الفاعلين والتنظيمات الإسلامية القائمة في القرن الحادي والعشرين، لأنها اشتغلت على إشكالات أساسية ومركزية في الإصلاح والتجديد.

إصلاح المؤسسة الدينية

“إن أعظم بدعة عرضت على نفوس المسلمين في اعتقادهم؛ هي بدعة اليأس من أنفسهم ودينهم، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له، وأن ما نزل بهم من ضر لا كاشف له، وتلك علة من أشد العلل فتكا بالأرواح والعقول”، هكذا تكلم الشيخ محمد عبده، عن الأزمة التي لمسها عند بداية انشغاله بقضايا التجديد والإصلاح الديني، فاليأس من الإصلاح كان مرضا منتشرا، وكان على المصلح الإبحار بروحه وأفكاره بعكس الاتجاه السائد، وبث الأمل بعد اقتلاع اليأس من النفوس، فكان تجديد الروح والدين، عملية تبادلية.

بعد معايشته للسياسة وقضاياها يخلص الشيخ محمد عبده أن تحريك مؤسسة خطوات على طريق الإصلاح هو أبقى وأنفع للأمة من قفزات الأفراد مهما كانت واسعة، لذا كان إصلاح المؤسسة الدينية أحد غايات ووسائل الحركة الإصلاحية التجديدية، فإصلاح “ماكينة” الإصلاح مدخل لكل إصلاح، لذا انصرف وعي المصلحين الكبار إلى ابتكار البرامج لإصلاح المؤسسات الدينية الكبرى كالأزهر والزيتونة والقرويين لدورها في تشكيل الوعي الديني وتبليغه.

 ويلاحظ أن البعض رأى أن إصلاح المؤسسة الدينية من الداخل يبدو رهانا خاسرا، خصوصا أولئك الذين يرون أن الإصلاح لا يتأتي من خلال القرار السياسي، غير أن الخبرة التاريخية تؤكد أن الإصلاح الذي يرتهن بصانع القرار السياسي يرتبط بمصالح السياسة وتقلباتها أكثر من كونه استجابة داخلية واعية لضرورات الإصلاح وإكراهاته، ومن ناحية أخرى لا يمكن النظر إلى إصلاح المؤسسة الدينية بمعزل عن الإصلاح السياسي، فليس من الصواب أن تُترك عملية الإصلاح رهينة للنخبة السياسية وحدها أو النخبة الدينية وحدها، كما لا يمكن التعويل على فاعلية المجتمعات العربية والإسلامية لتمارس الضغوط للقيام بالإصلاح والتجديد.

كان إصلاح الأزهر ركن رئيس في المشروع الإصلاحي للشيخ “محمد عبده” وكانت دعوته لإصلاح المؤسسة نابعة من تجربته الشخصية، وهذا ما أورده في مقاله “الأزهر والإصلاح” إذ كان إصلاح الأزهر يدور في تفكيره منذ أن كان طالبا صغيرا، حتى إنه فشل في تحديث بعض مناهجه، ومن ذلك فشله في إقناع الشيخ الإنبابي-شيخ الأزهر- بتدريس مقدمة ابن خلدون، كذلك انتقاده لغياب  تدريس العلوم الطبيعية، ونقد لسطوة التقليد على الأزهريين، بعدما انتشرت ما أسماه “ثقافة مدرسية” التي قصرت جهود العلماء على شرح الحواشي والمتون دون إنتاج متون جديدة، وهو ما أوهن ملكات العقل وقصرها على الحفظ، وبالتالي أصبحت العلوم التي تُدرس لا تنتج عقلا بصيرا ولا تُمكن صاحبها من خوض الجدال، ولا تُقوي شخصيته العلمية، كما عاب الشيخ خلو التعليم الأزهري من العلوم العقلية والرياضية والأخلاقية، وكان يقول عنهم أنهم “رضوا بالتقليد، وقعدوا عن التأليف، واكتفوا بشرح الكتب القديمة، وكتابة الحواشي على الشروح، وانتشر بينهم القول بتحريم دراسة العلوم العقلية”، بل إنه حمل الأزهر تبعة ما أصاب المسلمين من تراجع وتخلف، ولم يكتف بذلك بل حاول اقناع الخديوي عباس حلمي الثاني- حاكم مصر- بضرورة إصلاح المؤسسات الدينية الكبرى وفي مقدمتها الأزهر .

وقد عارض عدد من علماء الأزهر ومشايخه الكبار الرؤى الإصلاحية للشيخ محمد عبده، أما استجابة السلطة السياسية لاصلاح المجال الديني لم تكن إلا تحقيقا لبعض مصالحها وتدعيما لنفوذها في تلك المؤسسات، وتردد أن عباس حلمي أراد عقد صفقة مع الشيخ محمد عبده ملخصها أن تُطلق يد الخديوي في أراضي الأوقاف في مقابل إطلاق يد الشيخ في لإصلاح الأزهر.

 يمتد المشروع الاصلاحي للشيخ محمد عبده  في الأزهر إلى نواح إدارية وتعليمية، وعندما أمسك الشيخ بزمام الإصلاح راعي فيه أن يكون تدريجيا، إذ تغلبت روح الاعتدال على نفسه الثوري، ومكث الشيخ عشر سنوات يتعهد الإصلاحات في الأزهر بالرعاية، ورغم يقينه أن تلك السنوات لا تكفي لإزاحة الجمود، إلا أنه كان قال “إني بذرت في الأزهر بذرا: إما أن ينبت ويثمر ويؤتي أكله المغذي للروح والعقل، فيحيا به الأزهر حياة جديدة، وإما أن يقضي الله على هذا المكان قضاءه الأخير

ويبدو أن المشكلة التي لازمت الاصلاح في المؤسسة الأزهرية، وسببت نكوصا متكررا، تتمثل في الشد والجذب بين طرفي نقيض من رجالاته، وتوظيف السلطة السياسية لهذا التناقض بما يصب في تعزيز إحكام قبضتها على المؤسسة الدينية، وخضع منصب شيخ الأزهر لهذا التجاذب فكلما سخطت السلطة السياسية على أصحاب أحد الاتجاهين، سارعت إلى تعيين ممثل الاتجاه المخالف شيخا للأزهر.

ويلاحظ أن الأزهر في مرحلة الجمود كان يدرس ما أسماه الشيخ محمد عبده “علوم الوسائل” مثل النحو والبلاغة، حتى دروس التفسير لم تنصرف إلى معاني الكتاب وغاياته، وإنما كانت شروحا لغوية وبلاغية للنصوص، حتى بدا أنهم منفصلون عن العصر الذي يعيشون فيه.

والحقيقة أن مناهج التعليم الأزهرية كانت تعاني من هوة واسعة بين أنماط التفكير والخطاب الديني وبين انماط الحياة المُعاشة، وهو ما جعل الخطاب الديني ليس من مفردات المعاش اليومي للناس، كذلك أغرى الجمود الأزهري ذوي الاتجاهات الليبرالية إلى محاولات الدخول على خط الاصلاح الديني، كما أغرى نضوب الدعوات التجديدية داخل الأزهر وضعف تكوين خريجيه إلى محاولة الاتجاهات الليبرالية الإمساك بقضايا التجديد والإصلاح وطرح إشكالاته.

وأكد الكتاب أن العائق الأكبر الذي يحول دون النهوض والتجديد، في مؤسسة مثل: الأزهر، يتمثل في عنصرين:

ــ عائق استقلال المؤسسة الدينية عن الدولة؛ بما في ذلك استقلالها المالي، وهو ما جعل قرارها مرتهن دوما بقرار السلطة

ــ عائق التمسك بالمذهب الأشعري بوصفه ممثلا وحيدا لأهل السنة والجماعة، ما يحول دون الانفتاح على المذاهب الأخرى.