من بين العلماء الذين أنجبتهم بلاد شنقيط، وهم علماء عظماء أجلاء أبدعوا في ميادين العقيدة الإسلامية واللغة والفقه والرياضيات والمنطق، الإمام أبوبكر المُرادى الحضرمي الشنقيطي، الذي عرف باسم “قاضي الصحراء”، وهو إمام زمنه في علم المعقول والمنقول.

اسمه محمد بن الحسن لقبه أبوبكر المُرادى الحضرمي عاش في القرن الخامس الهجري وتوفي سنة 489 هـ ودفن بآزوكي في صحراء موريتانيا.عالم نبيه وإمام في أصول الدين، عالم بالاعتقاد، والأصول، والأدب، من المرابطين، وأصله من آزوگي.

كان عالما من أعلام المرابطين جاء به أبوبكر بن عامر من المغرب إلى البلاد فأقام بآزوكي في منطقة تيارت يعلم الناس ويقضي بينهم إلى أن عرف بـ”قاضي الصحراء”، وهو إمام زمنه في علم المعقول والمنقول وهو أول من أدخل علم الكلام إلى البلاد ، وهو أقدم مؤلف في البلاد ألف مؤلفات قيمة منها “كتاب التحبير في الأصول” و”الإشارة في تدبير الإمارة” و”أرجوزة كبري في الاعتقاد”و”أرجوزة صغري في الاعتقاد”و”رسالة في السياسة وآداب الإمارة” .

فكره وآثاره

كان المرادي ذا ثقافة كلامية أصولية، ولم يكن ذلك معروفاً ولا معهوداً بين مالكية المغرب الأقصى. حيث ورد في ترجمة ابن الزيات التادلي في كتابه “التشوف” لأبي الحجاج يوسف ابن موسى الكلبي الضرير تلميذ المرادي الذي قال: “وكان آخر أئمة المغرب الأقصى فيما أخذه عن أبي بكر محمد بن الحسن الحضرمي المعروف بالمرادي من علوم الاعتقادات، وكان مختصاً به، وكان المرادي أول من أدخل علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى”.

ويقول العباس بن إبراهيم السملالي في “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” (ط،1998-ج4-ص12): “كان محمد بن الحسن المرادي، رجلا نبيهاً عالماً وإماماً في أصول الدين، له نهوض في علم الاعتقادات والأصول ومشاركة في الأدب وقرض الشعر، كان ذا حظاً وافراً في البلاغة والفصاحة، دخل قرطبة سنة 487هـ. اختلف إلى أبي مروان ابن سراج في سماع التبصرة لمكي بن أبي طالب وحدث بكتاب فقه اللغة لأبي منصور الثعالبي، وله في أصول الدين توالف حسان مفيدة. ومن أصحابه أيضاً يوسف الكلبي الضرير دفين مراكش، أخذ عنه علم الكلام.”

بعد تخلي أبي بكر بن عمر عن الملك لصالح يوسف بن تاشفين وعودته إلى الصحراء نهائياً اصطحب معه مجموعة من العلماء من أجل نشر الثقافة الإسلامية، وكان الإمام المرادي في طليعتهم. يقول الدكتور رضوان السيد في مقدمة تحقيقه لكتاب المرادي “الإشارة إلى أدب الإمارة”: “سار المرادي مع أبي بكر بن عمر اللمثوني المرابطي في زحفه إلى الصحراء باتجاه بلاد السودان، وهناك في مدينة “آزوگي” استعمله أبو بكر بن عمر على القضاء.

لعل من أشهر كتبه ذاك الكتاب الذي ألفه إلى زعيم المرابطين الأمير أبي بكر بن عمر، وجعله منهاجاً فكرياً قابلاً للتطبيق في مجال السلوك السياسي، وفي مجال السلوك الأخلاقي، فهو في الحقيقة كتاب يهتم بالإنسان وبعلاقاته الاجتماعية وأحواله النفسية، كما يهتم بشؤون السياسة العامة المتصلة بالجهاز الإداري وبالسلطة التنفيذية. روى عنه أبو الحجاج جميع تواليفه ورواياته، وكان من بينها بالإضافة إلى كتاب “فقه اللغة” للثعالبي، أرجوزته الصغرى التي ألفها في الاعتقاد، وكتاب التجديد وأرجوزته الكبرى.

الحضرمي ومفارقات التاريخ

في سنة 1981 ظهرت من كتاب السياسة لأبي بكر المرادي الحضرمي المتوفى سنة   1095م ببلدة أزوكي قرب مدينة أطار الحالية، طبعتان متزامنتان بعناية المحققين سامي النشار ، ورضوان السيد ، فكان ذلك بمثابة إيذان باستئناف القول حول واحد من أبرز أساطين الفكر في الغرب الإسلامي المرابطي.

ومن الطبيعي أن يجد عمل هذين الباحثين المشرقيين صدى أكبر في موريتانيا ، هذا البلد الذي اختار الحضرمي المرادي أرضه وطنا نهائيا له بعد طول تجوال، فعرفته صحراء الملثمين في القرن الخامس الهجري قاضيا مطاعا،  ثم اكتشفته في القرن الحادي عشر وليا ملهِما . ويبدو أن نشر كتاب السياسة سنة 1981، كان مناسبة لاكتشاف ثالث تجلى فيه المرادي معقوليا متكلما وفيلسوفا سياسيا براجماتيا.

كان المؤرخ والسوسيولوجي عبد الودود ولد الشيخ في طليعة مستثمري طبعتي 1981 من كتاب السياسة ضمن سياق التاريخ الموريتاني، حيث قدم بمعية المؤرخ “برنار سيزون” دراسة شمولية تزاوج بين مناهج البحث التاريخي والمسح السوسيولوجي المعتمد على التقاليد المروية والتنقيب الأثري .

ويقول الباحث عبد الودود ولد عبد الله، إنه باستثناء الدراسة التاريخية التي قدمها الناني ولد الحسين حول “حياة قاضي المرابطين الإمام الحضرمي” ، والبحث الببليوغرافي الذي نشره أحمد ولد محمد يحيى حول كتاب السياسة أو الإشارة إلى أدب الإمارة باعتباره “أول مؤلف معروف في غرب الصحراء”  ، تمتاز البحوث المنشورة بعد ذلك حول نفس الموضوع بتركيزها الواضح على المنحى الفلسفي في فكر المرادي الحضرمي انطلاقا من منظور علم السياسة.

المُرادي رائد العلوم

مع أهمية الآثار العقدية والأدبية التي تركها المرادي، إلا أن أثره الأكبر يظل بلا شك كتاب السياسة (الإشارة في تدبير الإمارة). وينتمي هذا الكتاب إلى جنس الآداب السلطانية حيث الإشكالية هي : كيفية استمرار السلطة واستقرارها، تمييزا لها عن إشكالية الفقهاء، وهي: كيفية تحقق الشرعية، و عن إشكالية المتكلمين و هي:   تحقق السلامة العقدية للسلطة حسب مذهب المتكلم، وكذلك عن إشكالية الفلاسفة وهي: كيف يكون التدبير حكيما أي عقلانيا.

ويؤكد الباحث عبد الودود ولد عبد الله أن المرادي يمت بسبب واضح إلى تقاليد الآداب السلطانية سواء من حيث الشكل ( التبويب إلى أجزاء تعتبر دروسا ) أو من حيث الوظيفة ( تعليم السلطان أو الأمير الصغير فن السياسة من أجل مساعدته في استمرار ملكه و استقراره )، فإن كتاب السياسة من حيث المضمون غير بعيد عن إشكالية الفلاسفة ( أي: كيف يكون التدبير السياسي حكيما ).  كما يظهر من تأسيسه للمبادئ الأشعرية على المفاهيم الأرسطية (مثل اعتبار العقل الطبيعي أصلا للعقل الكسبي أو إعادة تأصيل مفهوم العادة في منبته الأرسطي ليصبح مرتكزا نظريا للفعل السياسي ).

وبذلك أرسى المرادي قواعد علم السياسة العقلانية في الغرب الإسلامي و تابعه كثير من المفكرين السياسيين مثل ابن رضوان  وابن الأزرق  ، حيث نقل هذان المؤلفان على الأقل عن المرادي تصريحا لا تلميحا.

بين التاريخ والذاكرة الشفوية

ومهما يكن فقد ساهمت الدراسات التي ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة في نفض الغبار عن جوانب من تاريخ المرادي،  بعد قرون من إهمال المؤرخين من موريتانيا ومن خارجها، مع استثناءات قليلة . ويندرج هذا الإهمال ضمن موقف عام درج عليه أغلب مؤرخي المرابطين، حيث اهتموا بنشأة هذه الحركة في مهدها الموريتاني ومراحل توسعها نحو الشمال المغربي والأندلسي، لكنهم التزموا صمتا مريبا حيال الطور الموريتاني الأخير لهذه الحركة بعد عودة الأمير أبي بكر بن عمر إلى الصحراء الموريتانية صحبة الفقيه المتكلم أبي بكر الحضرمي المرادي، إثر تخلي الأمير أبي بكر بن عمر عن مملكته في مراكش لابن عمه يوسف بن تاشفين، وتخلي المرادي الحضرمي عن سلطانه المعرفي في أغمات لتلميذه أبي الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الذي تذكر كتب الطبقات أنه “كان آخر أئمة المغرب فيما أخذ عن أبي بكر محمد بن الحسن الحضرمي، المعروف بالمرادي، من علوم الاعتقادات و كان مختصا به، و كان المرادي أول من أدخل علوم الاعتقادات إلى المغرب الأقصى، فنزل بأغمات وريكة، فلما توجه أبوبكر بن عمر إلى الصحراء حمله و ولاه القضاء (…..) فخلفه أبو الحجاج في علوم الاعتقادات” .

الحركة الحضرمية ومكر العقل

ويبدو أن قبر الحضرمي في “أزوكي” لم يكن معروفا ولا معلّما، قبل أن يُعلن محمد المجذوب المتوفى في حدود سنة 1098/1687 أنه قد كوشف بمكان القبر  حيث شيد عليه ضريحا واتّخذ من زيارته نُسكًا التزمه وألزم به أتباعه، وبذلك ظهر في مدينة أطار ما يمكن اعتباره حركة مجذوبية حضرمية.

ويتحدث عبد الودود ولد عبد الله عن أهم ملامح شخصية أبي بكر الحضرمي. ويتساءل : هل يستحق هذا الظلم المضاعف من تهكم أصحاب الطبقات الأندلسيين إلى مبالغات أدبيات المناقب مقابل استنكار الفقهاء والمتكلمين وصمت المؤرخين ؟

فمن المفارقة حقا أن الرجل الذي أراد أن يكتب التاريخ، قد تجاهله التاريخ المكتوب كليا، كما أن السياسي الذي حاول إقامة مدينة فاضلة قد لفظته كل المدن، والتهمته الصحراء، أما المتكلم والفيلسوف الذي وصل بمغامرة الفعل السياسي إلى مداها على هدي مبادئ العقل الأرسطي، فقد انتهى به الأمر إلى أن صار ملهما لطائفة غامضة يتصارع حول مبادئها الفقهاء و المجاذيب.

هل يصح اعتبار كتاب المنة جزءا من تراث الحضرمي بمعنى من المعاني؟ يعكر على ذلك التناقض الصارخ بين “عقلانية” المرادي البراجماتية كما تظهر في كتاب السياسة وما ينسبه المجذوب إلى نفس المرادي من أفكار إلهامية تراءى للمجذوب أنها كانت ترد إليه إملاء من المرادي، رغم القرون الخمسة الفاصلة بين المملي والمملى عليه.

ومع ذلك يجدر التنبيه إلى وجود نوع من “التناص” بين كتاب السياسة وكتاب المنّة، مما قد يدل على بقاء أثارة من تعاليم المرادي بمنطقة “أزوكي” ولو في شكل مأثورات شفوية أو تقييدات مكتوبة يجري تداولها في نطاق محدود، فما ذا بقي في هذه المأثورات من تعاليم المرادي “الأصلية”؟.

علم الكلام يدخل المغرب

من المعروف عن الرجل أنه كان أول من أدخل علم الكلام الأشعري إلى المغرب الأقصى. فهل عرفت العقيدة الأشعرية بعض الانتشار على يده في صحراء الملثمين؟ لا أحد يعلم الكثير عن انتشار الأشعرية في هذه المنطقة قبل نهاية القرن الهجري التاسع وبداية  العاشر (15 ــ 16 م)، عندما انتشرت مؤلفات المنطق وعلم الكلام في صيغته السنوسية على يد المغيلي وتلاميذه، لاسيما في تنبكتو.

أما الازدهار الحقيقي لمباحث العقائد فلا يبدو أنه سبق القرن الحادي عشر (17 م)، حيث شهد هذا القرن ورود كتاب إضاءة الدجنة للمقري. والملاحظ أن هذا الكتاب قد وظف فور وروده ضمن مشروع فكري يتوخى مواجهة تأثير الحركة المجذوبية المنتسبة إلى الحضرمي.