التحلي بصفة الإنصاف، وضرورة قبول الحق من أي قائل به، وتجنب المحاباة في دين الله: درب المحدثين، وأصل من أصولهم وسيمة من سيمهم، ولم يجدوا صعوبة في لزوم العدل وطرح حظوظ النفس، ومواقفهم في الإنصاف تمثل قمة أفق العدل، وقد آثروا الحق على النفس والأب والابن والأخ والقريب والصديق والمحب.

قال الخطيب:” فليس أحد من أهل الحديث يُحابي في الحديث أباه ولا أخاه ولا ولده”[1] إذ البراءة من الهوى والميل والجور شرط أساسي في المحدث الناقد مع لزوم الورع والأمانة والخبرة بالكلام في الراوة، ومثل هذا النهج العلمي والوازع الديني في التّربية لا يرى ولا يقدمه إلا المحدثون الذين ضربوا أروع الأمثلة في التّطبيق العملي لاعتماد سلوك الإنصاف والعدل والصدق في الأوصاف للموافق والمخالف على السواء.

إيثار الحق على النفس

مما عرف من سير المحدثين وآدابهم عدم الاستنكاف عن الإقرار بالخطأ وقبول الحق من أي أحد، حتى قال وكيع:” لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتبه عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه”[2]

وعن ابن وهب قال: كنت عند مالك، فسئل عن تخليل الأصابع فلم ير ذلك، فتركته حتى خف المجلس، فقلت: إن عندنا في ذلك سنة: حدثنا الليث وعمرو بن الحارث عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:” إذا توضأت فخلل أصابع رجليك” فرأيته بعد ذلك يسأل عنه فيأمر بتخليل الأصابع.[3]

ويقول الشافعي لتلميذه أحمد: يا أبا عبد الله أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا.[4]

وينوه الإمام أحمد بمكانة أقرانه وينسى نفسه ويقول:” أحفظنا للطوالات، الشاذكوني، وأعرفنا بالرجال يحيى بن معين، وأعلمنا بالعلل علي بن المديني[5]

وروى الإمام البخاري في صحيحه جملة من الحديث عن شيخه محمد بن يحيى الذهلي الذى تكلم فيه بغير الحق.

وكل هذا يسفر عن مدى التزام أهل الحديث بالعدل والإنصاف ولو تعلق الأمر بالنفس، لأن غايتهم نصرة الحق وتبليغه لا انتصار للنفس.

عدم محاباة الآباء والأبناء والأقرباء

لا ريب أن للأب مكانة عظيمة في نفس الابن من حيث الطبع، فضلا عن منزلة الوالدين الرفيعة في الدين، المعبرة عن مدى قوة الصلة الخاصة التى تكون بين الابن والأب، لا سيما حب الوالد لولده الذى قد لا يضاهيه أي حب في العادة، لكن المحدثين لم يكونوا يراعوا في الرواية أية اعتبارات قرابة ألبتة، وإنما قاعدتهم فيها ” إنما هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم” حفاظا واحتياطا في حفظ السنة النبوية، فمن وجدوه أهلا للرواية عدلوه وجعلوه من الثقات، ومن ثبت لديهم جرحه جرحوه بغض الطرف عن أي اعتبار شخصي.

قال البهيقي “ومن أنعم النظر في اجتهاد أهل الحفظ في معرفة أحوال الرواة، وما يقبل من الأخبار وما يرد، علم أنهم لم يألوا جهداً في ذلك حتى إذا كان الابن يقدح في أبيه إذا عثر منه على ما يوجب رد خبره، والأب في ولده، والأخ في أخيه لا تأخذه في الله لومة لائم ولا تمنعه في ذلك شجنة رحم ولا صلة مال، والحكايات عنهم في ذلك كثير”[6] ومن ذلكم:

1-من جرح أباه أو جرح ابنه

وهذا عبد الله بن جعفر والد الحافظ علي بن المديني من رواة الحديث، وأراد تلاميذ ابن المدينى أن يتأكدوا من حال أبيه فسألوه وقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق ثمّ رفع رأسه وقال:” هذا هو الدّين أبي ضعيف”[7]ولا يروى عنه حرف في تقوية أبيه بل يروى عنه ضد ذلك[8] وإذا حدث عنه قال:” وفي حديث الشيخ ما فيه أو قال فيه شيء”[9]

وكذا أحمد ابن الباغندي جرح أباه فقال: “لا تكتبوا عن أبي فإنه يكذب”[10]

وفي المقابل رمى أبو بكر الباغندي ابنه أحمد أيضا بالكذب، يقول الزينبي: دخلت على محمد بن محمد الباغندي فسمعته يقول: لا تكتبوا عن ابني فإنه يكذب” [11]

وقال أبو داود صاحب السنن:” ابني عبد الله كذاب”[12]

والإمام شعبة جرح ابنه سعد، وقال:” سميت ابني سعداً فما سعد ولا فلح كنت أقول له: اذهب إلى هشام الدستوائي فيقول: اليوم أريد أن أرسل الحمام”[13]

وإذا كانوا لا يجاملون ولا يحابون أباً ولا ابناً ومن دونهم من باب الأولى، ولذلك رأينا:

2- من جرح أخاه

عن عبيد الله بن عمرو قال: قال: قال لي بن أبي أنيسة: لا تحدث عن أخي يحيى بن أبي أنيسة فإنه كذاب”[14]

وسئل جرير بن عبد الحميد عن أخيه أنيس؟ فقال:”قد سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا يكتب عنه” [15]

وكان الإمام أبو بكر أحمد الصبغي ينهى عن السماع من أخيه محمد بن إسحاق لما كان يتعطاه من أمر الفتوة.[16]

3- من جرح بعض أقاربه

جرّح أبو عروبة الحسين خال أمه: الحسين بن أبي السري العسقلاني حيث قال : كذاب هو خال أمي”[17]

وقال شعبة بن الحجاج:” لو حابيت أحدا لحابيت هشام بن حسان كان ختني، ولم يكن يحفظ ” [18]

4- من لم يحاب شيخه

قد سئل عبد الله بن وهب تلميذ الإمام مالك عن عبد الله بن زياد بن سمعان فقال: ثقة.

وقيل له: إن مالكا يقول فيه: كذاب. فقال: لا يقبل قول بعضهم في بعض[19]

وروى ابن أبي حاتم عن ابن مهدي أنه قال:” اختلفوا يوما عند شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكما فقال: قد رضيت بالأحول يعني: يحيى بن سعيد القطان، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه فقضى على شعبة وهو شيخه ومنه تعلم وبه تخرج، فقال له شعبة: ومن يطيق نقدك – أو من له مثل نقدك – يا أحول؟! ثم قال ابن أبي حاتم معلقا على هذا الموقف:” هذه غاية المنزلة ليحيى بن سعيد القطان إذ اختاره شيخه شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من عدالته بنفسه وصلابته في دينه أن قضى على شعبة شيخه ومعلمه “[20]

الإنصاف مع الموافق والمخالف

1-قبول رواية المبتدع إذا كان ثقة ضابطا

الواضح في مذهب الأئمة الحفاظ: قبول رواية المبتدع إذا كان ثقة ثبتا، سواء روى فيما يوافق بدعته أم لا، ما لم يكن قد كفر ببدعته، وهذا هو المعمول به في واقع عملهم، ولا تحملهم معاداة المبتدع على ترك معاملته بالعدل.

قال الذهبي:” فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه، فإن قبول ما رواه سائغ.[21] 

وقال علي بن المديني: ” لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي خربت الكتب [22]

وكتب الحديث – بما فيها الصحيحان- طافحة بكثير من رواية أهل الهوى كالخوارج، والرافضة، والقدرية، والمعتزلة، والمرجية، الملتزمين بالصدق والأمانة والإتقان.

ولما قيل ليحيى بن سعيد: إن عبد الرحمن بن مهدي قال: أنا أترك من أهل الحديث كل من كان رأسًا في البدعة، فضحك يحيى بن سعيد، وقال: كيف يصنع بقتادة “وقد رمي بالقدر”؟. كيف يصنع بعمر بن ذر الهمداني “وكان رأسًا في الإرجاء”؟!. كيف يصنع بابن أبي رواد … وعد يحيى قومًا … ثم قال: إن ترك عبد الرحمن هذا الضرب ترك كثيرًا”[23]

وسئل يحيى بن معين عن سعيد بن خثيم الكوفي فقال: كوفي ليس به بأس ، ثقة ، فقيل ليحيى : شيعي؟ فقال: وشيعي ثقة، وقدري ثقة[24]

وكان ابن خزيمة إذا روى عن عباد بن يعقوب الرواجني يقول: حدثنا الصدوق في روايته المتهم في دينه”[25]

والمقصود أن التحامل المطلق على المبتدع يتنافى مع المنهج النقدى السائد بين أئمة المحدثين، ذلك المنهج المستمد من قوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}

2- رد رواية الراوى العدل إذا لم يكن ضابطا

جعل المحدثون تطبيق العدل والإنصاف فرضًا لازما مطلقًا عامًّا، مع الولي والعدو والبغيض والحبيب على سواء.

ومن أمثلة ذلك ما ورد في شأن محمد بن سليم القاضي أحد محبى يحيى بن معين، وقد تكلم فيه ابن معين بغض النظر عما بينهما من المحبة، فقال:” هو والله صاحبنا، وهو لنا محب، ولكن ليس فيه حيلة البتة، .. والله سمع سماعاً كثيراً ، وهو معروف، ولكنه لا يقتصر على ما سمع، يتناول ما لم يسمع… ليس بثقة… لأنه يكذب في الحديث “[26]
قال ربيعة بن أبي عبد الرَّحمن: “إن من إخواننا من نرجو بركة دعائه ولو شهد علينا بشهادة ما قبلناه”[27]

وقال أيوب السِّختياني: “إن لي جاراً -ثم ذكر من فضله- ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة”[28]

قال ابن المبارك رحمه الله: “ما أدري فيمن رأيت أفضل من عبَّاد بن كثير في ضروب من الخير، فإذا جاء الحديث فليس منها في شيءٍ”[29]

إن ذكر محاسن مردود الخبر أو الراوى الضعيف من باب تمام الإنصاف والتجرد في الحكم عند أهل العلم بالحديث، إذ ليس من العدل الثناء المطلق على الراوي العدل دون ذكر ما فيه من الضعف.

وهذا حفص بن سليمان الأسدي إمام مشهور في القراءة، وهو صاحب عاصم بن أبي النجود في القراءة، إلا أنه في الحديث غير مرضي.

قال عنه الذَّهبي: أما في القراءةِ، فثقة ثبت ضابط، بخلاف حاله في الحديث”[30]

وقال عنه ابن حجر العسقلاني “متروك الحديث مع إمامته في القراءة[31]

والخلاصة: أن ميزة العدل والإنصاف في تراث المحدثين كانت ظاهرة فريدة في التاريخ، نفذوه أروع تنفيذ، وحققوه في عامة رواة الخبر بأحسن وأجلى الصورة حتى مع أنفسهم ومع أقرب الأقربين، تحريا للحق وحفاظا على حياض السنة النبوية والدين.

وبهذا الإخلاص الكامل وصدق اللهجة أورثهم الله حسن العاقبة وجميل الذكر إلى يومنا هذا.


[1] شرف أصحاب الحديث ص:41

[2] معرفة أنواع علوم الحديث ص:249

[3] سير أعلام النبلاء 9/ 234

[4] آداب الشافعي: ص 94-95

[5] شرح علل الترمذي ص:486

[6] السنن الصغير 1/85

[7] المجروحين 2/15

[8] شرف أصحاب الحديث ص:41

[9] الكامل في ضعفاء الرجال 5/290

[10]  سؤالات حمزة بن يوسف السهمي للدار قطني. ص:132

[11] المصدر السابق

[12] الكامل في ضعفاء الرجال 4/ 118  لكن العلماء لم يلتفتوا لهذا الطعن

[13] ميزان الإعتدال 2/ 122.

[14] الجرح والتعديل 2/289

[15] لسان الميزان 1/217

[16]  ينظر: الأنساب 8/34

[17] الجرح والتعديل 2/289

[18] الكامل في ضعفاء الرجال 7/2570.

[19] جامع بيان العلم وفضله 2/ 305

[20] مقدمة الجرح والتعديل 1/232 

[21] السير12/ 385

[22] الكفاية ص153 – 154

[23] المصدر السابق

[24] تهذيب الكمال 10/414

[25] المدخل إلى كتاب الإكليل ص:49

[26] تاريخ بغداد 5/325

[27] الكفاية ص:190

[28] توجيه النظر ص:91

[29] المجروحين 2/167

[30] معرفة القراء الكبار، للذهبي 1/140

[31] تقريب التهذيب ص: 257