إن الإيمان بالقدر داخل ضمناً في الإيمان بالله، بل هو جزء حقيقي منه لأن معناه، الإيمان بإحاطة علم الله تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الكون، ونفوذ قدرته في كل شيء.

والإيمان بالقدر، الذي جاء به الإسلام هو إيمان بمقتضى الكمال الإلهي الذي تميزت به عقيدة الإسلام، وصححت به أوهام الفلسفات، وانحراف الديانات في شأن الألوهية.

فليس الإله في الإسلام إلهاً معزولاً عما يجري في الكون لا يعلمه ولا يتدخل فيه بتدبير ولا تصريف ك”إله أرسطو” الذي لا يعرف إلا ذاته، ولا يعلم عن هذا الكون شيئاً، ولا يدبر فيه أمراً، أو “إله أفلوطين” الذي لا يعلم ذاته نفسها.

وليس كإله المجوس، الذي له نصف الكون يدبره ويتصرف فيه، وهو ما يتعلق بالخير والنور، أما النصف الآخر وهو ما يتصل بالشر والظلمة، فذلك من شأن إله آخر، فهما إلهان إذن: أحدهما إله الخير والنور، والآخر إله الشر والظلمة والحرب بينهما سجال حتى ينتصر إله الخير في النهاية.

وليس هو كآلهة اليونان، التي تخبط في تصرفاتها خبط عشواء والتي تعيش في حرب مع البشر، حتى إن رواياتهم عن القدر وضرباته للناس تمثله هازئاً بهم، متحدياً لهم، يطاردهم ويتجنى عليهم، ولهذا كثر الحديث في أدبهم عن قسوة القدر، وعن القدر الأعمى، والقدر الغاشم ونحو ذلك.

وليس كإله بني إسرائيل، الذي تصوره توراتهم المحرفة، وكتبهم وأساطيرهم، غيوراً منتقماً مدمراً، متعصباً لشعب إسرائيل دون العالمين، خائفاً من الإنسان أن يأكل من شجرة الحياة، فيصبح كواحد من الآلهة، نادماً على ما يفعله في بعض الأحيان عاجزاً عن مقاومة الإنسان، حتى إن إسرائيل ليصارعه فيصرعه.

ليس هذا الذي تتصوره، أو تصوره الديانات والفلسفات هو إله الإسلام، إنما الإله في الإسلام هو مالك الملك، وصاحب الخلق والأمر، رب العالمين، هو خالق كل شيء عن قبضة قهره، ولا حي أو جماد عن دائرة سلطانه، يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء، ولا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو مع هذا بر كريم، عدل رحيم، عليم حكيم، لا يظلم أحداً، ولا يأخذ مخلوقاً بذنب غيره، ولا يبخسه أجر سعيه، فلا يخاف أحد عنده ظلماً ولا هضماً، والظلم: أن يعاقبه بما لم يفعل والهضم: أن يضيع أجر ما قد عمل، والله سبحانه لا يعاقب بغير سيئة ولا يضيع أجر حسنة، بل يضاعفها كما قال سبحانه:” إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرً عَظِيمًا” (النساء: 40).

إنما الإله في الإسلام هو مالك الملك، وصاحب الخلق والأمر، رب العالمين، هو خالق كل شيء عن قبضة قهره، ولا حي أو جماد عن دائرة سلطانه، يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء، ولا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء

هذا هو الإله الذي يجري كل شيء في الكون بتقديره وتدبيره بعلمه ومشيئته ومقتضى حكمته، وعلى هذا الأساس كان إيمان السلف بالقدر من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، فليس الإيمان بالقدر إيماناً بالبخت والمصادفات والعشوائية في الكون، كهؤلاء الذين ينقلون إلى العربية التغييرات اليونانية والغربية عن القدر فتراهم يقولون: القدر الأعمى، والقدر الأحمق، والقدر الغاشم، وعبث الأقدار، وسخرية القدر ونحوها، وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها الإسلام والمسلمون، إنما هو إيمان بإحاطة علم الله وعموم مشيئته وشمول قدرته، وربوبيته لكل ما في الكون وإن كل ما يحدث في الوجود إنما يتم بناء على ترتيب أو تصميم سابق، وتدبير قدير، وتقدير عزيز عليم.

الأدلة من القرآن الكريم على وجوب الإيمان بالقدر

وردت في كتاب الله تعالى آيات تدل على أن الأمور تجري بقدر الله تعالى، وعلى أن الله تعالى علم الأشياء وقدرها في الأزل، وأنها ستقع على  وفق ما قدرها ـ سبحانه وتعالى.

1- قال تعالى:” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر: 49)  قدر الله كل شيء في الأزل وكتبه سبحانه.

2- وقوله تعالى:” سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا” (الأحزاب، آية 38) . أي قضاء مقضيا، وحكماً مبتوتاً وهو كظل ظليل، وليل أليل، وروض أريض في قصد التأكيد.

3- وقوله تعالى:” فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى” (طه: 40) ، أي أنه جاء موافقاً لقدر الله تعالى وإرادته على غير ميعاد.

4- وقوله تعالى:”فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ” (المرسلات: 21ـ 23) . أي جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه وهو الرحم، مؤجلاً إلى قدر معلوم قد علمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ وحكم به، فقدرنا على ذلك تقديراً فنعم القادرون نحن، أو: فقدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له.

5- وقال تعالى:” وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّبِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ” (الحجر: 21) . يخبر تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيءٍ سهل عليه يسير لديه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف، ” وَمَانُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ” كما يشاء وكما يريد ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة.

6- وقال تعالى:” نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ” (الواقعة: 60)  أي: صرفناه بينكم “وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ” أي: وما نحن بعاجزين.

7- وقال تعالى:” وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ” (فصلت: 10) .

8- وقال تعالى: “مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ” (عبس : 19) ، أي: قدر أجله ورزقه وعمله، شقي أو سعيد.

وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله قدر كل شيء.

الأدلة من السنة على وجوب الإيمان بالقدر

دلّت نصوص السنة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً، ولكن نعرض بعضها، ومن هذه الأحاديث:

1 ـ حديث جبريل: المشهور برواياته المحتلفة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.

2 ـ حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.

3 ـ حديث علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث.

وصايا نبوية لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر

كان الرسول صلى الله عليه وسلم مربياً ومزكياً لنفوس أصحابه، وهي المهمة التي شرفه الله سبحانه بها، وتتجلى هذه التزكية، بأوضح صورها من خلال هذه الوصايا الثلاثة التي تُعد بحق نماذج العلاج النبوي لأمراض النفوس وتدريبها عملياً على التسليم لقضاء الله وقدره والرضا به.

الوصية الأولى: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان.

وفي هذا الحديث النبوي يبين الرسول صلى الله عليه وسلم  من أن من أراد نيل محبة الله ورضوانه فعليه أن يبادر إلى تقوية إيمانه ومجاهدة نفسه، وطلب القوة في العلم والجسم، وغير ذلك من عناصر القوة النافعة التي تتضافر جميعها لتكوين شخصية المسلم الذي يحبه الله سبحانه، ولكي يحظى المسلم بذلك فلا بد له من الأخذ بالوصايا النبوية الواردة في هذا الحديث، وهي: أن يحرص على ما ينفعه ويطلب العون من الله سبحانه ولا يعجز، وأن يسلم أمره لله فيما قدّر له، فلا يسخط ولا يشتكي من المصائب ولا يدع للشيطان مدخلاً يقوله: “لو أني فعلت كذا وكذا” فكلمة “لو” تجلب الحسرة والأسى، وتزيد اللوعة وتورث القلق والاضطراب، ولن يستطيع إعادة ما فات ولا إحياء من مات مهما تحسر، وإنما سيجلب لنفسه الكآبة ولجسمه الأمراض والآلام ويتعرض لغضب الله، باعتراضه على قدره، فالعلاج العملي أن يقول: “قدّر الله وما شاء فعل”، مُعِلناً استسلامه لأمر الله ورضاه بقضائه وأن يعود لسانه على هذا القول كلما ناله شئ يكرهه.

الوصية الثانية : دعاء الاستخارة

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني استخريك بعلمك واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم إن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فأقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فأصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، ويسمي حاجته.

وهذه الوصية النبوية تُعد تدريباً عملياً على توطين النفس ورضاها بالقضاء والقدر، وتسليمها لما يقدر الله، اعتقاداً بأن ذلك هو الأصلح، والأنفع للعبد، فإذا همَّ المسلم بأمر من الأمور المباحة، من سفر أو زواج، أو تجارة أو غير ذلك فعليه أن يبادر إلى العمل بهذه الوصية النبوية، فيدعو بدعاء الاستخارة متذللاً أمام ربه، متواضعاً بين يديه، مستسلماً لأمره، راضياً بحكمه، داعياً أن يختار الله له ما فيه الخير في دينه ومعاشه وعاقبة أمره، وأن يصرف عنه هذا الأمر إن كان فيه شر، ثم يعزم على هذا الأمر، فإن انشرح صدره له، ويسر الله طريقه، وهو الخير الذي اختاره الله، وإن جاء الأمر على عكس ذلك، فعليه أن يفرح، لأن الله صرف عنه شراً واختار له ما يصلحه، ولو لم يدرك الحكمة فلتطمئن نفسه ولا يبقى متعلقاً بهذا الأمر، أو قلقاً من أجله، وبهذه الوصية النبوية، يدرب المسلم نفسه عملياً على الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمره، ويجاهد نفسه على مخالفة هواها ويربيها على الالتزام بأمر الله، لأن في ذلك صلاح دنياه وآخرته .

روى الأعمش عن مسعود رضي الله عنه قال: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له، نظر إليه الله من فوق سبع سماوات، فيقول للملائكة: أصرفوه عنه فإني أن يسرته له أدخلته النار، قال: فيصرفه الله عنه، قال: فيقول: من أين دُهيت؟ وما هو إلا فضل الله سبحانه.

ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم كثيراً بدعاء الاستخارة ليعلمه لأصحابه، كما يعلمه السورة من القرآن، وهذا دليل على غاية الإهتمام به، والحرص عليه وهو ومن هو.

الوصية الثالثة:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم. وفي رواية البخاري: إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فُضل عليه.

وفي هذا الحديث دواء لداء الحسد والتشكي من الأقدار، فالنفس التي تتطلع إلى الآخرين لن ترضى بحالٍ من الأحوال كلما بلغت درجة من الغنى والجاه تعوَّدتها فملتها وتطلّعت إلى المزيد فهي دائماً في تلهف إلى كثرة المال وتعلق به وسخط وحسرة وازدراء للنعم، وجحود للمنعم، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم. وفي رواية البخاري: إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فُضل عليه.

فإذا اتبع المسلم هذه الوصية النبوية فإنه سيعرف قدر النعمة ويرضى بما قسم الله له، وينال القناعة، ويحظى بالسعادة ولو كان مبتلى بالفقر أو المرض أو المصائب المختلفة، لأنه إن كان فقيراً لا يملك وفرة من المال فلينظر إلى من ابتلى بالفقر المدقع والجوع الشديد، وإن كان مريضاً يشكو من بعض الآلام فلينظر إلى من ابتلي بعاهة أو مرض مزمن خطير، وهكذا يبقى دائماً مقدراً للنعمة راضياً بما قسم الله له شاكراً صابراً.

ولو أخذ المسلمون اليوم بهذه الوصايا النبوية لسعدت أحوالهم، واستقامت أوضاعهم، وعرفوا الثمرة الحقيقية للإيمان بالقضاء والقدر، وسارعوا إلى التنافس في التقوى والعمل الصالح والتقرب إلى الله عوضاً عن التنافس على حطام الدنيا الزائل.