يتنادى بعض الكتاب في الشأن الديني بالاغتراف من الآراء الفقهية جميعها دون الحاجة إلى النظر في أدلتها وتقويمها وفق موازين الترجيح، ويصورون أن هذا من التيسير المطلوب في الدين، فبوسع أي إنسان يحتاج إلى رأي فقهي في مسألة ما، أن يطالع كتب التراث الفقهية، ويختار منها ما يحلو له، ويترك ما لا يحلو له.

يقول بشير العوف : ” من القواعد الشرعية الأصولية المسلَّمة في العمل بها، أن أي موضوع من موضوعات العقيدة أو الأحكام الشرعية، حصل بين الأئمة وعلماء الأمة خلاف حوله بالجواز أو الصحة، أو عدم الجواز والصحة، فإن المسلم الذي يتبع هؤلاء الأئمة والعلماء ويقدر لهم علمهم، يجوز له أن يأخذ برأي من الرأيين أو من الآراء، ويترك الرأي الآخر، ولا يحاسب ولا يلام إذا اتبع أحد الرأيين، ولا يجوز إجباره دينا على الأخذ برأي معين وترك غيره”

مجموعة “جوستيان”

وتسهيلا على العوام الذين لا يحسنون التعاطي مع كتب التراث، فقد اقترح بعضهم إخراج مدونة فقهية تجمع الآراء المختلفة في كل نازلة من النوازل.

يقول عبد الله العلايلي : “إن الإصلاح يتطلب التسليم بكل ما قالت المدارس الفقهية، على اختلافها وتناكرها حتى الضعيف منها، وبقطع النظر عن أدلتها.

واختزانها في مدونة منسقة حسب الأبواب مثل “مجموعة جوستيان” وأعني كل ما أعطت المدارس : الإباضية والزيدية، والجعفرية، والسنية من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وأوزاعية وظاهرية، ومن قبلها مدارس الصحابة فالتابعين، فتابعي التابعين إلخ، وذلك بجعل هذه الثروة الفقهية منجما لكل ما يجد ويحدث. ”

انتقاء دون دليل

” ويتأسس على هذا المقترح، أنه في حال واجهتنا مشكلة من مشاكل اليوم، أو نازلة من النوازل، نأخذ الحل من هذا المنجم الفقهي، بقطع النظر عن قائله أو دليله، وبتغير الظرف يتغير الحكم المعتمد، وذلك بشكل أنَّ ما رجحناه من قبل نجعله مرجوحًا، ونأخذ بمقابله الذي هجرناه، فالمرجع إذًا هو الظرف فقط، ما دمنا قد سلمنا بأقوالهم جميعًا وقبلناها جميعًا، فما هجرناه اليوم من قول في مسألة ما، ثم اقتضاه الظرف بعد حين، نعمد إلى ترجيحه، والأخذ به ولا عجب، فالأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، والمقتضى في كل ذلك هو التيسير، وهما كليتان فقهيتان لا مجال للريب فيهما”.

وبمثل ذلك يقول حسن الترابي في كتابه تجديد الفكر الإسلامي، ص 51

ومن أشد المدافعين عن هذا الاتجاه الدكتور سعد هلال أستاذ الفقه بجامعة الأزهر.

منطلقات هذه النظرية

إن هذه النظرية تنطلق من أن الآراء الفقهية لها نفس قدسية النص المعصوم، يتم التعامل معها كما يتعامل مع النص نفسه، فهذه النظرية لا تنتظر تحقيقا ولا تمحيصا ولا ترجيحا، بل حسبها أن تظفر بقول فقهي منسوب إلى أحد المجتهدين، فتجعله في مصاف النص المعصوم.

من الجذور العلمية التي يستند إليها هؤلاء، القاعدة الفقهية : ” لا يُنكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه.”

والحق أن من صاغ هذه القاعدة وضع لها ضوابط واستثناءات، يقول السيوطي : [القاعدة الخامسة والثلاثون: لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه] ” ويستثنى صور، ينكر فيها المختلف فيه:

إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ، بحيث ينقض. ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء.”

ومن قبله يقول الشاطبي : “وإذا تعارضت الأدلة، ولم يظهر في بعضها نسخ، فالواجب الترجيح، وهو إجماع من الأصوليين أو كالإجماع. فوجب ـ بحسب الجريان على آرائهم في السلوك ـ ألا يعمل بما رسموه، مما فيه معارضة لأدلة الشرع.”

ومن قبلهما يقول النووي : ” لا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو اجماعا أوقياسا جليا.”

موقف ابن القيم

ويعترض ابن القيم على صياغة القاعدة على هذا النحو، ويرى أن الصواب استبدال كلمة (الاجتهادية) ب( الخلافية) فتصاغ على هذا النحو” مسائل الاجتهاد لا إنكارَ فيها” : فيقول : ” (وقولُهم ” إنّ مسائلَ الخلافِ لا إنكارَ فيها ” ليس بصحيح! فإن الإنكارَ إما أن يتوجهَ إلى القولِ, أو الفتوى, أو العمل. أما الأول: فإذا كان يُخالفُ سنةً أو إجماعاً شائعاً وجبَ إنكاره اتفاقاً, وإن لم يكن كذلك فإن بيانَ ضعفهِ ومخالفته للدليل إنكار مثله. وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة, أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار.. وكيف يقول فقيه: ” لا إنكار في المسائل المختلف فيها ” والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنةً, وإن كان قد وافقَ فيه بعض العلماء ؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنةٌ ولا إجماع, وللاجتهاد فيها مساغ, لم تُنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً .

ويقول السبكي : (فمن قوي مدركه اعتُدَّ بخلافه, وإن كانت مرتبته في الاجتهاد دون مرتبة مخالفه, ومن ضَعُفَ مدركه لم يُعتد بخلافه؛ وإن كانت مرتبتُه أرفع ).

و يقول الإمامُ العز بن عبد السلام رحمه الله: (والضابطُ في هذا أن مأخذَ المخالف إن كان في غايةِ الضعف والبعدِ من الصواب, فلا نظرَ إليه ولا التفات عليه؛ إذا كان ما اعتمدَ عليه لا يَصلُح نصبُهُ دليلاً شرعياً, ولا سيما إذا كان مأخذهُ مما يُنقض الحكمُ بمثلهِ ”

ويقول الإمام الشافعي رحمه الله في رسالته: (كل ما أقام اللهُ به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً, لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه)

وهذا يعني أن وجود الخلاف أيًّا كان لا يُعَدُّ حجة, بمعنى أن مجرد وجود الخلافِ لا يكفي لاختيار أي قول مهما كان, حيث نص المحققون على المنع من اعتبار الخلاف حجة تضاهي الحجج والأدلة الشرعية, قال الإمامُ الفقيهُ ابنُ عبد البر رحمه الله: “الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله”

ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: “لست مع الذين يقولون: إن أي رأي فقهي نقل إلينا عن أحد المجتهدين نقلا صحيحا يجوز لنا أن نأخذ به دون بحث عن دليله، وخصوصا إذا كان منسوبا إلى أحد المذاهب المتبوعة.

فالواقع أن مثل هذا الأخذ تقليد محض، وليس: من الاجتهاد الذي ندعو إليه في شيء، لأنه مجرد أخذ قول غير المعصوم، بلا حجة.

إنما الذي ندعو إليه: أن نوازن بين الأقوال بعضها وبعض، ونراجع ما استندت إليه من أدلة نصية أو اجتهادية، لنختار في النهاية ما نراه أقوى حجة وأرجح دليلا، وفق معايير الترجيح، وهي كثيرة، ومنها: أن يكون القول أليق بأهل زماننا، وأرفق بالناس، وأقرب إلى يسر الشريعة، وأولى بتحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، ودرء المفاسد عنهم.”

ويقول أيضا : ” وإذا كان كل من عدا الرسول المعصوم المؤيد بالوحي: بشرا يصيب ويخطئ، فإن من حقنا ـ بل من واجبنا النظر في تراث أسلافنا العظام من مفسرين ومحدثين وفقهاء ومتكلمين ومتصوفة ـ فضلا عن غيرهم من الفلاسفة والأدباء والمؤرخين ـ لنعرف ما فيها مما يوافق محكمات القرآن والسنة الصحيحة، وما لا يتفق معها، مما يحمل قصور البشر، وهم بشر، وتأثر البشر بالبيئة والعصر والمحيط، بحيث نميز بين الإلهي والبشري، وبين الثابت والمتغير، وبين ما يمكن قبوله، وما يجب رده.

… وإذا كان عرض ما جاء عن السلف على الكتاب والسنة واجبا، فعرض ما جاء عن الخلف أوجب.

… وبهذا نعلم أن تقويم تراثنا، ووزنه بميزان الله ورسوله، فرض علينا، لننتفع بصوابه، ونتوقى خطأه، ونأخذ بخير ما فيه، وقد وصف الله المهتدين العقلاء من عباده بقوله: (فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب) الزمر:17،18. فهؤلاء الذين هداهم الله من أصحاب العقول لا يكتفون باتباع الحسن من القول، بل يتبعون أحسنه وأفضله.”

وخلاصة القول : أن الآراء الفقهية ليست سواء، بحيث نختار منها ما نشاء للفتوى والقضاء، وندع منها ما نشاء. بل منها ما هو جدير بالاختيار حسب ميزان التمحيص والترجيح، ومنها ما هو جدير بالطرح والإهمال حسب هذه المعايير، فمن هذه الاجتهادات ما وافق الصواب، ومنها ما جانبه الصواب.


– تعاليم الإسلام بين الميسرين والمعسرين، بشير العوف (1/258)

– أين الخطأ، ص 99

– أين الخطأ، ص 99

– الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 158)

– الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 278)

– شرح النووي على مسلم (2/ 24)

– إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 224)

– الأشباه والنظائر للسبكي (1/ 113)

– قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 253)

– الرسالة للشافعي (1/ 560)

– جامع بيان العلم وفضله (2/ 922)

– الاجتهاد المعاصر، ص 26