البركة اعتقاد ومفهوم معروف لغالبية البشر على اختلاف أديانهم ولغاتهم، وشواهده في الحياة تثير تحديات للفكر المادي، فالمادية حصرت الوجود فيما هو ملموس ومحسوس وقابل للقياس، غير أن البركة تغترف من معين آخر هو الغيب، وتلفت قلب الإنسان وإداركه إلى المخفي في الوجود، فتذكره بالخالق سبحانه وتعالى، وبفضله على عباده، وبحاجة البشر إليه حتى ولو كانوا يمتلكون الأسباب المادية في أيديهم، فيحتاجون أن تحل بهم وعليهم مباركة ربهم.

هذا المقال ينصرف إلى مناقشة التحدي الذي تفرضه البركة كمفهوم وتجلي ظاهري على الفكر المادي، كتحدِ يستمد قوته من الغيب، ويشترط لحلوله في المادة شروطا إيمانية وسلوكية وأخلاقية، فإذا توفرت حلت بركة السماء والأرض في الأشياء، فتكثر وتنمو وتزداد، وتبتعد عنها الآفات والأضرار، ويؤتي العمل والمجهود حدوده القصوى في العطاء.

ماهية البركة

من التساؤلات التي تثيرها البركة، هل هي مادية: بمعنى أن هناك زيادة مادية حقيقة في الأشياء، أم أنها روحية، بمعنى: أنها تعبر عن نوع الرضا والسعادة من الإنسان مع النعمة؟

للبركة[i] تعريفات كثيرة، منها الزيادة والنماء، و” ثبوت الخير الإلهي في الشيء”، ومن ثم فهي مرتبطة بالاعتقاد، لأن من يعتقد أن النماء والخير من الله سبحانه، لابد أن يستشعر الامتنان لربه، ولذلك جاء في حديث البخاري “البركة من الله”، ومعان البركة المتعددة، تتفق في معنى كبير وهو أنها سر وعطاء إلهي.

ويلاحظ أن الأشياء المباركة هي التي بها الكثير من الهداية، ففي الرؤية الإسلامية، هناك أحاديث دلت على بركة القرآن[ii] الكريم، وبركة البيت الحرام، والشام، وماء المطر[iii]، والانفاق في سبيل الله، وشهر رمضان، وعشر ذي الحجة، وأشياء كثيرة، وهي أشياء محل هداية عظيمة للناس، وفيها خير كامن، وإرشاد من الله بأهميتها .

والبركة لا تقتصر على الفرد فقط، ولكنها قد تعم المجتمعات فتشيع فيها الازدهار والرفاه، وتخلق البيئة الصالحة للحياة الطيبة بمفهومها الشامل، المادي والمعنوي، وراحة البال وكفاية الموارد للاحتياجات والانتقال من حياة الكفاف إلى حياة الكفاية والوفرة المقترنة بالبعد الداخلي المتعمق بالرضا والسعادة، والمشبع بتوفر الحاجات، والبيئة الآمنة والنفس المطمئنة، والوئام والسلام الاجتماعي.

ومع هذا فإن الفكر المادي ينكر البركة اعتقادا ومفهوما، بسبب جحوده للغيب، مدعيا أنها من “الخرافات” ولا يمكن قياسها، ولا تستطيع مؤشرات الاقتصاد أن تتاثر بحلول البركة في المجتمعات.

لكن باعتبار أن البركة قادمة من عالم الغيب، فحتى تُرى آثارها لابد أن يكون هناك إيمان بالغيب ابتداءا، فالعين المغمضة الكليلة لن ترى الضوء المبهر، أما الأدلة المادية التي تؤكد تأثير البركة في المجتمعات، تذهب الرؤية القرآنية أن إنفاق المال في سبيل الله، وفي وجوه الخير يجعل الأفراد والمجتمعات أهلا لحلول البركات، أما من حيث التحليل الاجتماعي فإن هذا الانفاق، الذي يراعي كفاية الفقير، ويتأدب بالآداب والأخلاق في الانفاق، فيبتعد عن المن والأذى، ويبدأ بأولى القربي والجيران والدوائر القريبة، فإن ذلك يخفض الصراعات والجريمة في المجتمع، ولا يهدر طاقات المجتمع في ارتكاب الجريمة أو مكافحتها، التي تستنزف الانسان والاقتصاد.

نشير هنا إلى بعض البلاد ذات الجشع الرأسمالي الذي ينصرف كل إلى ذاته بعيدا عن رسالته، فإن حجم الجرائم تتكاثر، فمثلا الولايات المتحدة يوجد فيها 2.2 مليون شخص خلف السجون أي ما يقارب من 1% ، و4.5 مليون شخص تحت المراقبة والملاحظة، ولك أن تتخيل ما تخصصه الدولة من رجال شرطة وسجون من أجل القبض على هؤلاء واحتجازهم ومراقبتهم، والموارد الهائلة الضائعة والمهدرة.

حجاب المادة

الفكر المادي حجاب كثيف يحجب الوجود عن الإدراك الإنساني، لكن فقدان البصر لا يعني عدم وجود الأشياء، والعمى ليس دليلا على غياب النور، وما فوق العقل من قضايا الاعتقاد لا يعني أن الغيب غير موجود، وكما يقول الفيلسوف الأمريكي “رالف والدو إيمرسون”: “كل ما رأيته يعلمني أن أثق بالخالق لكل ما لم أره“، فالبركة المتخفية في المادة، تلفت الانتباه للغيب ولحقائق الوجود المتعالية، فالمعنى الذي خلفها، هو أن هناك إلها للكون بيده المنح والعطاء، فيجب أن ينصرف قلب الإنسان وعقله للخالق سبحانه، فيشكره على نعمه، ويتمسك بأوامره.

والبركة هي نوع من ظهور الغيب في عالم المادة، وهذا التجلى جاء ليبدد الايمان بالمادة والسبب كسبيل وحيد للنماء والخير والكثرة، وليؤكد أن قدرة وعطاء السبب للإنسان تكون أقل بكثير مما يهبه الغيب، فالاعتقاد بوجود البركة يلفت الإنسان إلى الخالق سبحانه باعتباره هو المنعم، وهنا يتعمق الايمان، ومن ناحية أخرى، فإن مفهوم البركة باعتباره حلولا للغيب في عالم المادة، يجعل الإنسان غير مكتفي بالسبب كسبيل للوصول إلى النتيجة أو الغاية، ولكن يؤمن بأن هناك قوة خارقة قادرة على المنح والوهب وجبر النقص، وزياد القليل وتكثيره، هذا الايمان يلفت القلب إلى الغيب لفتا قويا، يجبره من خلال دليل مادي أن يؤمن ويمتن للخالق سبحانه، فيرى يد الغيب المتخفية بالعطاء تبدو متجلية في الواقع.

والبركة تنبه الإنسان إلى مخزون قوة الغيب، وقدرتها ، وتبهر العين بالعطاء المتجسد أمامها، وتدفعها للنظر إلى ما وراء المادة والطبيعة، ونشير هنا إلى ما جاء في السيرة النبوية من طعام يكفي أشخاص معدودة، فحلت به البركة بعد دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم– فكفى الطعام جيشا جائعا بأكمله حتى شبع؛ بل وخزن في أوعيته ما استطاع، ففي الحديث النبوي الذي جاء بعدة روايات في الصحاح، ومنها مسلم والنسائي، عن أبي هريرة قال: “لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا، وادهنا؟

فقال: إفعلوا.

فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر، ولكن أدعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة.

فأمر رسول الله بنطع فبسط، ودعا بفضل أزوادهم.

قال أبو هريرة: فجعل الرجل يجيء بكف التمر، والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع شيء من ذلك يسير، فدعا عليهم بالبركة.

ثم قال: “خذوا في أوعيتكم”.

فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأه، وأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة.

فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فتحتجب عنه الجنة”

وما يلفت النظر هنا أن رؤية حلول البركة وتجسدها في المادة، تفتح القلب على التوحيد الخالص، والإيمان العميق بالغيب، وتصل الإنسان بربه وصلا مباشرا، في حالة من الامتنان والشكر، ولذلك كان تعليق النبي-صلى الله عليه وسلم- على هذا المشهد العظيم هو الشهادة بوحدانية الله تعالى، والاعتراف بنبوته-صلى الله عليه عليه وسلم-.

يصف بعض الغربيين ” العلمانية بأنها شريرة بحكم تعريفها: فهي تصف مجتمعًا عازمًا على معارضة الله والتمرد عليه” لكن هذا الجحود والنكران كشف عن تحول حياة الإنسان إلى جحيم عندما انعزلت عن الخالق سبحانه، إذ كانت العلمانية بيئة لتفريخ الإلحاد، فأوجدت عالما مخيفا وغير قابل للحياة المطمئنة، رغم الادعاء بأنها تقدم الأمل للناس في حياة أكثر إشراقا، غير أن رفض الإله والغيب له ضريبته القاسية على البشرية، فقد مُحقت البركة، وتحولت الحياة إلى حلبة صراع وقلق لا ينتهي.


[i] وردت مادة “بر ك” في القرآن الكريم 32 مرة

[ii] ذكره  الإمام “الزركشي” أنه “لن ينتفع بالقرآن إلا من أخلص لله قلبه ونيته، وتدبرّ الكتاب في عقله وسمعه، وعمّر به قلبه، وأعمل به جوارحه، وجعله سميره في ليله ونهاره، وتمسك به وتدبر”، وهو ما يعني أن للبركة شروطا حتى في تلاوة القرآن الكريم.

[iii] كان من أدبه-صلى الله عليه وسلم- أنه يتعرض للمطر، حتى يبلل جزءا جسده وثيابه، وعندما سئل عن ذلك قال: ” لأنه حديث عهد بربه”، فبركة المطر، تحصلت من قرب ذلك الماء المبارك من الله.