إن تقسيم أجيال البلاغة في تاريخها الممتد منذ نزول القرآن حتى الآن، يتمثل في ثلاثة أجيال:

الجيل الأول بلامنازع، وهو محل حديثي في هذا المقال، جيل البلاغة الفطرية الذي تنزل عليهم القرآن؛ فبز قلوبهم، وأسر عقولهم، وأدهش ألبابهم، وعقد ناصية البيان في ألسنتهم، فوقفوا أمام محرابه مندهشين مذعنين؛ فكانت البلاغة؛ دليل الحجة والبرهان، فجرتهم بزمام البيان إلى الإيمان، ولم يكابر إلا من بلغ غاية الجحود والبهتان؛ حتى آثر القتال بالسنان على منازلة البيان!

هذه البلاغة الفطرية التي تمثلها غاية الامتثال جيل الصحابة الكرام، إذ كانوا يملكون ناصية البيان، ويتذوقون رفيعه، ويدركون عميقه؛ فأثر فيهم بيان القرآن تأثيرا فريدا عجيبا !

 لامثيل له في جيل آخر ممن جاء بعدهم أو تأثر بهم؛ فكانوا جيلا بيانيا عجيبا، وجيلا قرآنيا فريدا، فبلغ بهم الفهم والإيمان مبلغا عظيما، لا مطمع في  الوصول إلى رتبتهم فيه، و لا إلى مستواهم في الفهم والبذل والتضحية، لما استقر في عقولهم وأفئدتهم منه؛ لأي جيل آخر ممن تتابع بعدهم  في مراحل الزمان.

ذلك أن البلاغة كانت فطرة متأصلة فيهم، مستقرة في كيانهم وكينونتهم، فلاينطقون إلابها، ولايحتكمون إلا إليها في التفاضل بالمكانة و البيان، وأقاموا لها أسواقهم الأدبية في الجاهلية والإسلام.

ودونك أيها الحب الحبيب هذا العلق النفيس لنفائس القول والبيان، أنموذج دليل وبرهان، على البلاغة لدى جبل شامخ من جبالها السامقة، الذي خر دون تماسك عند سماعه آيات من القرآن؛ منحنيا أمام ناصية البيان، عند سماعه قوله تعالى:

﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ [طه: 1-6]

لأنه أدرك ببلاغته الفطرية السامقة عمق هذا البيان، وسموه، وعلو كعبه فوق طاقات البشر ، ولا يكون إلا ” تَنزِیلࣰا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ ٱلۡعُلَى”

فانحنى بناصيته وأذعن للإيمان، إنه الفاروق عمر عليه من الله كل تكريم ورضوان، فإليك ” البلاغة العمرية” بين يديك؛ لتدرك بفهمك وذوقك بلاغتهم الفطرية التي اتسموا بها.