الشخصية مثل العضلة، تحتاج إلى محفز، وتدريب حتى تنمو وتقوى، والتحديات التي يقابلها الإنسان في حياته، تساهم في تقوية شخصيته، فالشخصية ما هي إلا نتاج لمجموع الاستفادات من التجارب، فإذا غاب التحدى كانت الشخصية ضعيفة والإرادة واهنة، وسُنة الحياة أن كل إنسان يولد وأمامه عقبات وتحديات يجب أن يجتازها، حتى وإن كان يمتلك الثروة والسلطة والعافية، والهروب من المواجهة ليس حلا ولا علاجا، ولكنه تأجيل ومراوغة من المخاطرة والمغامرة. فكيف يكون التحدي وبناء الشخصية؟

التحدي..محفز

التحديات تبني الشخصية، لأنها تجبر الإنسان على إيجاد حلول إبداعية لمشاكله وعقباته، التي تبدو في لحظة ما أنها مستحيلة، وهذا يحتاج من الإنسان أن يحفر بعيدا في ذاته ليكتشفها، ويعرف قدراتها الكامنة، التي لا تظهر إلا مع التحدي والأزمة، ومن هنا ينصرف للبحث عن كيفية الاستجابة للتحدي، أكثر من الوقوف مذهولا أمامه، فالتحدي قدر لا مفر منه في الحياة، والاسترخاء ينشيء شخصية ضعيفة، وغياب الشدائد ينشيء شخصيات هشة، والشجاعة لا توجد إلا في ظل الخطر.

ومن هنا كان احتضان المواقف الصعبة، وتحويلها إلى فرصة وطاقة للتعلم، أمرا مهما، يقول المجاهد عمر المختار: “إن الضربات التي لا تقصم ظهرك تقويك“، وهذا ما تنبه إليه العلامة “ابن خلدون” في مقدمته عندما قارن بين إنسان البادية، وإنسان الحواضر، فيقول: “أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر، والسّبب في ذلك، أنّ أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدّعة، وانغمسوا في النّعيم والتّرف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الّذي يسوسهم.

التحديات تطور للإنسان فهما أعمق عن العالم، وعن ذاته، لذا اعتبرها البعض “نعمة مُستترة”، والنجاح في مواجهتها يُنمي النظر بإيجابية للذات، وهذا أحد أشكال العلاج النفسي، وأحد وسائل مقاومة اضطرابات الشخصية، فحسب عالمة النفس “إيمي فيرنر”   Emmy Werner  التي أمضت أربعين عاما في دراسة أطفال أسر تعاني من الحرمان، خلصت دراستها إلى أن 30% من هؤلاء أصبحوا نابغين بشكل مذهل وفاق أقرانهم، غير أن “فيرنر” أشارت إلى مسألة دقيقة، وهي: أن ذلك النجاح كان نابعا من داخلهم، أي من إرادتهم، حيث اتخذ هؤلاء قرارا بأن معاناتهم ومأساتهم لن تؤثر عليهم، وأنهم لن يسمحوا لها أن تكون عقبة أمامهم، ومن ثم فإعادة هيكلة علاقة الشخص بالواقع بشكل إيجابي، مسألة مهمة، حتى يستطيع أن ينظر إلى التحدي كفرصة لتنمية ذاته.

غلاف كتاب “أطلق العنان لثقتك الداخلية” لإيمي كودي

والحقيقة أن الانتصار على التحدي، لا يكون بإنكاره، أو إغفاله، ولكن بالاستعداد للتغلب عليه وتجاوزه، ووضع التحدي في حجمه الحقيقي، فالتحدي ليس معناه الاستحالة، ولكن معناه أن هناك ما يمكن إنجازه بجهد وصبر ومرونة وخطة، وإعداد بدائل لمواجهة أي تطورات غير متوقعة، وهنا تظهر للفرد قدرته على توليد حلول إبداعية، قد يكون غافلا عنها .

التحدي والروح

في شأن التحدي وبناء الشخصية، أشار الكثير من علماء النفس والتربية إلى أهمية الجانب الروحي لمواجهة التحدي، وفي الرؤية الإسلامية، نجد آيات عظيمة تحث على التوكل، وتكره العجز، وتطلب من المسلم الاستعانة بالله لمواجهة التحديدات والخطوب، ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم، يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: ” المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنِّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان “وقد فسر الإمام “النووي” مفهوم القوة هنا بعزيمة النفس.

ويرى بعض علماء النفس أن نمو الشخصية بعد مواجهة أزمة ما، لا يتأتي من خلال المعاناة نفسها، ولكن من خلال قدرة الفرد وكفاحة لمواجة تلك الأزمة، فالكثير ممن تعرضوا لأزمات، قاموا بتغيرات جذرية في حياتهم حتى يتحقق لهم النجاح والتغلب على التحدي، فالمعارك تخوضها الروح قبل الجسد، ويكون ميدانها النفس قبل الواقع، وتجنب الصراع، أحيانا، قد يكون شيئا غير جيد، لأنه يحرم الإنسان من فرصة للتعلم، ويحرمه من اكتشاف ذاته وقدراته.

والشخصيات القوية ليست ناتجة عن بناء سريع، ولكنها نتاج جهد وجهاد طويل، وحصيلة انتصارات صغيرة ومتراكمة، فالطفل المدلل الذي تخشى عليه أسرته من كل شيء، ولا تعرضه لأي تحديات تقوي شخصيته، فإنه ينشأ ضعيفا يخشى من كل شيء، وفي القرآن الكريم، وصية بالجرأة واقتحام التحديات، يقول تعالى: “ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ(1)،  ففكرة الجرأة في مواجهة التحدي تقود غالبا إلى الانتصار ، وجاء في تفسير المنار  أن ” التوكل إنما يكون بعد بذل الوسع في مراعاة السنة وامتثال الأمر”.

تحدثت عالمة النفس الدكتورة ” كارول دويك ” Carol Dweck عن مفهوم “عقلية النمو”  growth mindset  وتأثير المعتقدات على النجاح، وأكدت أنه عندما تتغير النظرة للتحدي، يمكن الحديث عن انتصار، فبنو إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: “قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْههَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (2)مواجهة التحديات فإنها تعاني التيه لأزمان بعيدة، وقد تكون مواجهة التحدي أقل كُلفة من تحمل تبعات الهروب من المواجهة.

تذهب الدكتورة “إيمي كودي” Amy Cuddy الأستاذة بجامعة هارفارد، في كتابها “أطلق العنان لثقتك الداخلية(3)أن المرء عليه أن ينشغل بتقييم ذاته أثناء مواجهة التحدي، قبل الانشغال بنظرة الآخرين إليه، لأن ذلك هو الذي يُقويه، وتقول:” إذا تبنينا سلوكيات تعكس القوة والقوة ، فإننا نحرر أنفسنا من المخاوف والشكوك التي تعيقنا”، وتقدم من خلال علم النفس نصائح وأساليب لتقوية الذات، وتعزيز الثقة بالنفس في لحظات الأزمات، أو ما أسمته “تقنيات بناء الثقة“، وأشارت أن علم الأعصاب أظهر قدرة أدمغتنا على صنع خلايا عصبية جديدة، في أي عمر، وهو ما يعني إمكانية إنشاء أنماط تفكير جديدة، ورأت أنه يمكن تقوية الخلايا العصبية في دماغ الإنسان وتحسين اتصالاتها بالدماغ، ومن ثم يمكن تعزيز الثقة بالنفس.

القرآن الكريم نبه المسلم إلى التحديات الكبرى التي ستواجهه في حياته الدنيا، وكيفية التغلب عليها، ومن تلك التحديات: النفس الآمارة بالسوء، والدنيا بزينتها وزخرفها، والشيطان بوسوسته، قال تعالى عن الشيطان: “إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا“(1).

جاء في تفسير “الظلال” عن ذلك التحدي الشيطاني: “إنها لمسة وجدانية صادقة، فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان، فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات، يتحفز لدفع الغواية والإغراء؛ ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه، ويتوجس من كل هاجسة، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم، وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير، حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية؛ كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادرة من عدوه وكل حركة خفية، حالة التعبئة الشعوريه ضد الشر ودواعيه، وضد هواتفه المستسرة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان، حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة، ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً “.