القرآن الكريم هو رسالة الله تعالى الخاتمة للناس جميعًا، وهذه الرسالة منذ أُنزلت حتى قيام الساعة لا تزال كتابًا مفتوحًا يحمل هداياته وبشاراته وإنذاراته لكل فرد ولكل جيل ولكل أمة؛ بحيث يقرؤها كلّ من هؤلاء وكأنها رسالة إليه هو بذاته من دون الآخرين، هذه الرسالة لن نستطيع أن نتعامل مع موجباتها إلا إذا أحطناها بجملة من الأمور، تبدأ بقراءتها قراءة حسنة، وبالاستماع والإنصات لها بخشوع، ثم التدبر ما تحمله من تقريرات وأوامر ونواهٍ، ثم العمل بذلك في خاصةِ النفس وفيمن حولنا.. هذا هو حق هذه الرسالة علينا، وواجبنا تجاهها؛ وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيأتي يوم القيامة يشكونا إلى الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30).

والهجر هنا يشمل هجرَ التلاوة وهذا أقله، أو أوله، وهجرَ العمل وهذا آخره أو أعظمه! نعوذ بالله منهما. قال ابن كثير: “وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُصغُون لِلْقُرْآنِ وَلَا يَسْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فُصِّلَتْ: 26)، وَكَانُوا إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى لَا يَسْمَعُوهُ، فَهَذَا مِنْ هُجْرَانِهِ؛ وَتَرْكُ عِلْمِهِ وَحِفْظِهِ أَيْضًا مِنْ هُجْرَانِهِ، وَتَرْكُ الْإِيمَانِ بِهِ وَتَصْدِيقِهِ مِنْ هُجْرَانِهِ، وَتَرْكُ تَدَبُّرِهِ وَتَفْهُّمِهِ مِنْ هُجْرَانِهِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ زَوَاجِرِهِ مِنْ هُجْرَانِهِ”([1]).

في معنى التدبر

والتدبر من (دَبَرَ)، الدَّالُ وَالْبَاءُ وَالرَّاءُ. أَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ جُلَّهُ فِي قِيَاسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ آخِرُ الشَّيْءِ وَخَلْفُهُ خِلَافُ قُبُلِهِ([2]). و”دَبَّرَ الْأَمْرَ وَتَدَبَّرَهُ: نَظَرَ فِي عَاقِبَتِهِ، وَاسْتَدْبَرَهُ: رَأَى فِي عَاقِبَتِهِ مَا لَمْ يَرَ فِي صَدْرِهِ. وَالتَّدْبِيرُ فِي الْأَمْرِ: أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا تَئُولُ إِلَيْهِ عَاقِبَتُهُ، وَالتَّدَبُّرُ: التَّفَكُّرُ فِيهِ”([3]).

والتدبر والتفكر يشتركان في معنى هو التأمل، لكن بينهما خلاف؛ وقد أوضح ذلك الجرجاني فقال: “التدبر: عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر؛ إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب”([4]).

ويقال: “تدبُّر الأمرَ: تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استُعْمِل في كل تأمل؛ فمعنى تدبر القرآن: تأمُّل معانيه وتَبصُّر ما فيه”([5]).

إذن، المقصود بتدبر القرآن الكريم أن نتأمل معانيه وتوجيهاته، ونتبصَّر ما فيه من هداية ونور، ولا نكتفي بترديد الكلمات دون معايشة وإدراك.

القرآن يدعونا لتدبره

والقرآن الكريم نفسه يرشدنا إلى كيفيه القيام بحقه علينا، ويخبرنا أن “التدبر” من ضمن هذه الحقوق الواجبة له. ولهذا جاء الأمر بالتدبر في القرآن خاصًّا بما يجب للقرآن من تعظيم وتبجيل وفَهْم والتزام به. وهنا نشير إلى عدة نقاط:

– التدبر حق للقرآن، وطريق لفهمه والعمل به: قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82): “وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) عَلَى وُجُوبِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ لِيُعْرَفَ مَعْنَاهُ”([6]).

– أنكر الله تعالى على المشركين عدم تدبرهم القرآن، ووبخهم على ذلك: فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} “فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ فِي اسْتِمْرَارِ جَهْلِهِمْ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِ التَّدْبِيرِ لَدَيْهِمْ”([7]). ودلَّ ذلك، بمفهوم المخالفة، على أن تدبر القرآن من صفات المؤمنين.

– جاء  الحديث عن التدبر مرتبطًا بحالة القلب: فيقظة القلب تُعينه على التدبر، بينما وجود أقفال الغفلة عليه مانعٌ من ذلك؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24). قال البيضاوي: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي. {أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} لا يصل إليها ذكر ولا ينكشف لها أمر([8]).

قراءات أضاعت التدبر!

وإذا كان التدبر أحد الآداب أو الواجبات التي علينا الالتزام بها تجاه القرآن الكريم، مع حسن القراءة والإنصات والتفكر؛ حتى نقف جيدًا على معانيه، ونحسن التلقي عن الله سبحانه وتعالى.. فإننا نرى سلوكًا آخر يتنافى مع ذلك، ويناقض ما يجب لهذا الكتاب العزيز من عناية وتدبر!

• فالبعض وقف مع القرآن عند مجرد قراءته، والتنغيم بهذه القراءة، والتماس “البركة” منه عند المآتم والأفراح والمناسبات.. فهل الهدف من “الرسالة”- أي رسالة- يتحقق بقراءتها أم بالعمل منها!!

• والبعض الآخر ذهب في فهم القرآن أفهامًا منحرفة تناقض القرآن نفسه!! ويتخذ من القرآن دليلاً على إبطال القرآن!! تحت زعم قراءات تجديدية أو تأويلية أو غير ذلك، مما يُخفي حقيقة الفعل الرامي لتجاوز القرآن لا تفعيله، والقفز عليه لا الانطلاق منه!!

• والبعض الآخر تعامل مع القرآن لو كان كتابًا للعلوم والمعارف، بالمعنى المتخصص؛ فصار يبحث فيه عما يتصل بالعلم الذي يشتغل به هذا الباحث.. فالقرآن في تعاملٍ شواهدُ للنحو والشعر، وفي تعاملٍ سجلٌ للبلاغة والأدب، وفي تعامل ثالث مدونةٌ للأحكام والتشريعات.. وهكذا!

والإنصاف يقتضينا أن نشير إلى أن هذا التعامل الأخير، إنما جاء في أصله ليعكس اهتمامًا كبيرًا بالقرآن الكريم، وحرصًا بالغًا على أن يكون محورَ العلوم التي نبعت من بين دفتيه، وتفرَّعت على جانبيه.. لكن هذا التعامل- مع طول الوقت، ومع طبيعته من حيث هو تعامل جزئي تخصصي- حَجَبَ الأنظار عن التعامل الأساسي الواجب للقرآن، أي باعتباره كتابَ هدايةٍ وتوجيه للحياة.. حتى أصبحت كتب التفسير مليئة وغنية بالكثير من العلوم والمعارف والدقائق، وبالقليل من التدبر والتأمل والمعايشة!

لقد بيَّن الله تعالى أن الحكمة من إنزاله القرآن هي أن نتدبره ونعي ما فيه، ونعمل بمقتضاه؛ فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29). قال القرطبي: “أَيْ لِيَتَدَبَّرُوا؛ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى، وُجُوبِ مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيلَ أَفْضَلُ مِنَ الْهَذِّ [سرعة القراءة]؛ إِذْ لَا يَصِحُّ التَّدَبُّرُ مَعَ الْهَذِّ”([9]). وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا تَدَبُّره بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ؛ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، مَا يُرَى لَهُ القرآنُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ([10]).

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتدبرين كتابه العزيز، العاملين بما فيه، الداعين لمنهاجه القويم..


([1]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 6/ 108.

([2]) مقاييس اللغة، ابن فارس، 2/ 324.

([3]) لسان العرب، ابن منظور، 4/ 273.

([4]) التعريفات، الجرجاني، ص: 54.

([5]) الكشاف، الزمخشري، 1/ 540.

([6]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 5/ 290.

([7]) التحرير والتنوير، ابن عاشور، 5/ 137.

([8]) أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي، 5/ 123.

([9]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 15/ 192.

([10]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 67/ 64.