شجع الإسلام الحركة العلمية ودعا إلى التعلم وبين فضل العلماء، والنصوص في ذلك متواترة وأكثر من أن تحصى ومنها قوله تعالى (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) و(يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم درجات) وقول نبيه الكريم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) و(طلب العلم فريضة على كل مسلم).

وقد ترجم المسلمون هذه النصوص ووضعوها موضع التطبيق، فمنذ ظهور الإسلام باشر الرسول صلى الله عليه وسلم مكافحة الأمية حين ألزم أسرى بدر ممن يحسنون القراءة والكتابة صبيان المسلمين مقابل تحريرهم.

وقد اجتهد علماء المسلمين في وضع أسس نظرية تربوية إسلامية وبرز في هذا المضمار: القابسي وابن سينا والغزالي وابن خلدون الذي احتل موضوع تعليم الصغار وطرائقه نصيبا من اهتماماته الفكرية.

ماهية العلم

خصص ابن خلدون بضع فصول في المقدمة للحديث عن التعليم وأبرزها الفصل السادس الذي حمل عنوان “العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه وسائر وجوهه”، وكما نلحظ فإنه جمع بين العلم والتعليم في هذا الفصل الذي أسهب فيه في ذكر كل علم من العلوم وأشار إلى كيفية “تعليم العلم”، وقبيل استعراض آرائه في ذلك نتوقف أولا أمام تعريفه للعلم ودرجاته.

يرى ابن خلدون أن العلم هو حصول الفكر [العقل] على شيء لم يكن حاصلا عليه من قبل، وهذه الأشياء التي يتحصل عليها ليست طبيعية فلا تولد مع الإنسان، وإنما هي مكتسبة ويتم الحصول عليها شيئا فشيئا، لأن الفكر دائم الحركة يفكر في الحياة والميعاد وهي أمور تستدعي تحصيل ما ليس لديه، ولأجل هذا تنشأ العلوم والصنائع، ويبدأ العلم بالإدراك ثم يتطور إلى المعرفة التي تنمو وتتطور حتى تصبح علما. والعلوم لديه على صنفين “صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه” والأول هو العلوم الفلسفية والثاني هي العلوم النقلية الشرعية التي تستند إلى الخبر عن الواضع الشرعي ولا مجال للعقل فيها[1].

منشأ صناعة التعليم وتطورها

ويعتبر ابن خلدون أن” العلم والتعليم طبيعي في البشر” لأن الإنسان يتطلع دائما إلى تحصيل ما يفوقه من المدركات، ويرجع فيها إلى من سبقه بعلم أو إدراك أو خبرة، وهذا هو منشأ التعليم الذي يزدهر وينمو “حيث يكثر العمران وتزدهر الحضارة”، ويرجع السبب في ذلك إلى أنه أمر زائد على الأمور الضرورية من مأكل ومشرب، فمتى أشبع أهل العمران حاجاتهم الأساسية انصرفوا “إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع”، ومن نشأ في البادية وتشوف بفطرته إلى العلم فلن يجد ما يشبعه ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار، وأن يقصد مشاهير المعلمين لأنهم “السند في التعليم.

ويعتبر ابن خلدون “التعليم صناعة من جملة الصنائع”، وهو ما يعني أنه ليس موهبة فطرية وإنما هو ملكة يحصلها الإنسان ويكتسبها، ويلاحظ أنه تطور بمضي الزمان إذ يقول  “التعليم صدر الإسلام والدولتين لم يكن كذلك، ولم يكن العلم بالجملة صناعة إنما كان نقلا لما سُمع من الشارع وتعليما لما جهل من الدين على جهة البلاغ”[2] وهو يفسر لنا هذا التحول على ضوء انتشار الإسلام بين شعوب الأرض وكثرة استنباط الأحكام من النصوص “فاحتاج ذلك إلى قانون يحفظه من الخطأ، وصار العلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف”.

ومما يبرهن على كون التعليم صناعة “اختلاف الاصطلاحات فيه -أي طرق التعليم-، فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم، إذ لو كان من العلم لكان واحدا عند جميعهم”، وهذا يعني أن ابن خلدون يقر باختلاف طرق التعليم وتنوعها وأنه ليست هناك طريقة واحدة صحيحة وما عداها باطل. 

طرق التدريس

يفترض ابن خلدون أنه لابد أن يكون لدى الطالب “استعداد لما يلقى عليه”، ومع وجود الاستعداد لا يستطيع قبول العلم دفعة واحدة بل يُتدرج في تعليمه شيئا فشيئا، ويرسخ العلم في ذهنه مع التكرار على فترات متقاربة مع الاستعانة بالأمثلة التي تقرب المعنى، وحول هذا المعنى يقول” إن قبول العلوم والاستعداد لفهمها ينشأ تدريجيا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا قليلا وعلى سبيل التقريب والإجمال بالأمثلة الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل”.

ويدعو ابن خلدون المعلمين على الاقتصار في تعليم المبتدئين على علم واحد أو اثنين، وحجته في ذلك “أن لا يخلط على المتعلم علمان معا، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما” ويصعب عليه فهمهما.

وتعليم العلم لديه يكون على ثلاث مراحل: الأولى هي البدء من أصول العلم ومبادئه ثم الانتقال تدريجيا إلى التفصيلات ومنها إلى الفرعيات على وجه الإجمال إلى أن يبلغ نهاية العلم، وعندئذ تحصل للمتعلم ملكة في العلم إلا أنها ضيقة وغايتها تهيئته لفهم العلم وتحصيل مسائله. 

والثانية، أن يعاود المعلم الشرح ويكون وسطا بين الإجمال والتفصيل، وهو يبين ذلك بقوله: “ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن؛ فتجود مَلَكته”

والثالثة، أن يعاود المعلم الشرح و” لا يترك له – أي المتعلم- عويصًا ولا مبهمًا ولا مغلقًا إلا وضَحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته”.

هذا هو “التعليم المفيد” كما يصفه ابن خلدون ، وهو يحصل في “ثلاث تكرارات” ولكن معظم المعلمين لا يراعون هذا المبدأ الذي يقوم على التكرار والتدرج من البسيط إلى المركب، ويسلكون مسلكًا يخالفه وهو ما ينتقده بشدة «وقد شاهدنا كثيرًا من المعلمين لهذا العهد — الذي أدركنا — يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويُحْضِرُون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانًا على التعليم وصوابًا فيه، ويكلِّفونه رعي ذلك وتحصيله، ويخلطون عليه بما يُلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعدَّ لفهمها”.

وليس هذا الانتقاد الوحيد الذي يوجهه للمعلمين وإنما ينتقد كذلك ميلهم إلى العقاب البدني واستخدام الشدة مع المتعلمين، وهو يقرر أن العنف مضر بهم من ثلاثة وجوه: أنها تذهب بالنشاط وتدعو إلى الكسل، وأنها تدعو إلى الكذب والرذائل الخلقية، وأنها تعلمهم المكر والخديعة، ولهذا يقترح ابن خلدون أن تمتد سلطة المحتسب إلى “الضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين.[3]

المناهج التعليمية

تطرق ابن خلدون في مواضع متفرقة من المقدمة إلى ذكر المناهج التعليمية السائدة في عصره، وذكر بعضا مذاهب الأمم الإسلامية في ذلك مشيرا إلى أن أهل الملة جميعا متفقون على أولوية القرآن وأنه “أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات”، ومع ذلك فقد رأت بعض الأمم أن يضيفوا إلى تعليم القرآن شيئا من الحديث والفقه، ثم الخط والكتابة، ثم أصول الشعر واللغة، ثم قواعد الحساب. ويميز ابن خلدون بين أربعة مذاهب أساسية في التعليم وبيانها كالتالي:

– مذهب أهل المغرب، ويتلخص في الاقتصار على القرآن لا يخلطون شيئا معه إلى أن يتمكن منه الدارس، ثم يخلطون به علوم العربية والخط.

-ومذهب أهل الأندلس، وهم يجعلون القرآن أساسا لكنهم يخلطون معه الشعر والترسل وقوانين العربية ويعتنون بالخط والكتابة.

-ومذهب أهل أفريقيا خلط القرآن بالحديث في الغالب، وهم يدرسون معه قواعد العلوم ومبادئها، إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على رواياته وقراءاته تفوق ما عداها ويأتي الخط والكتابة بعدها.

ومذهب أهل المشرق العناية بالقرآن كما يدرسون مبادئ العلوم، ولا يخلطون معه الخط الذي له قواعد محددة ومعلمون مختصون به.

ويختم ابن خلدون بذكر المنهج الذي وضعه القاضي أبو بكر العربي ويحبذه ابن خلدون، وهو إن تعليم العربية والشعر يجب أن يتقدم على القرآن وسائر العلوم على الإطلاق، ويجب أن يلي ذلك تعليم الحساب، وأما القرآن فيجب ألا يبدأ بتعليمه إلا بعد ذلك — أي بعد العربية والحساب — وفي الأخير يشرع في تعليم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الجدل، ثم الحديث وعلومه، وأما علة تقديم العربية فهي أن اللغة فسدت ويجب الاعتناء بها وتقديمها على سائر العلوم حتى يستطيع الدارس فهم واستيعاب ما يلقى عليه.

يفهم مما سبق أن ابن خلدون تعمق في دراسة التعليم من كافة جوانبه، ومعظم آرائه التعليمية تم اعتمادها ضمن النظريات التربوية الحديثة.