في مطلع القرن التاسع عشر كتبت الإنجليزية “ماري شيلي” روايتها “فرانكنشتاين” أو “إله النار الجديد” تحكي فيها قصة “فيكتور فرانكنشتاين” ذلك العالم الشاب الذي أنتج وحشا دمر ما حوله بما في ذلك “فرانكنشتاين” نفسه، بعدما قاله له:”كان يجب أن أكون آدم الخاص بك، لكنني بدلًا من ذلك كنتُ الملاك السيء”، ورغم أن الرواية من بدايات ما كُتب في الخيال العلمي، إلا أنها رواية فلسفية رصدت مخاوف الإنسان المبكرة من تحول التقنية من أداة في يده، إلى أداة للسيطرة عليه، تنتهي بدماره.

تجلت الثورة الصناعة الأولى في توظيف الآلات في الانتاج أو ما يسمى بالميكنة[1]، أما الثورة الصناعية الثانية[2] فعبرت عن نفسها فيما أطلق عليه “آلية الذاتية” أو “الأتمتة”، كانت الثورة الصناعية الأولى بديلا لعضلات الإنسان، أما في الثورة الصناعية الثانية فقد كانت بديلا لعضلات الإنسان وعقله معا.

كان الإنسان يعتمد على الحيوان لامداده بقوة للتعامل مع الطبيعة، وكانت الآلات محصورة ومحدودة الاستخدام، لآلاف السنين، وعندما بدأ الإنسان في إدخال الآلة إلى حياته كان هدفه توفير قدر من الحماية في التعامل مع مخاطر الطبيعة، وإمداد الإنسان بقوة للتعامل معها، فكانت الآلة تحت سيطرة الإنسان، وفي يده، ولم تظلم عضلاته وعقله وإحساسه بالطبيعة، لكن مالبث أن وقع الإنسان في أسرها فعزلته عن الطبيعة، وأصبح أسيرا لقدرتها وجبروتها، وصارت جهوده منصرفة للتكيف معها، فغيرت تلك الآلات من طبيعة التفاعلات الإنسانية وشبكة العلاقات الاجتماعية، وأخذ الإنسان معها يشعر بالاغتراب والإحساس بالعجز، فقد”جعلت الثورة الصناعية الصفاء أمرا أكثر صعوبة وندرة في جميع أرجاء المعمورة”[3].

وفي محاولة للحديث عن تأثير التقنية على حياة الإنسان المعاصر، يأتي العدد الخامس عشر من مجلة “الاستغراب” ربيع 2019، في 321 صفحة متناولا محورا مهما بعنوان “جنابة التقنية: الحكاية الكبرى لعالم بلا روح”، ليقدم عدة دراسات وترجمات ومقالات ترصد تحول التقديس في الحضارة الغربية المعاصرة من العقل إلى الأشياء، فنتج عن ذلك أزمة اعتقاد عميقة، متشابكة مع أزمة أخرى تتمثل في غياب المعنى في حياة الإنسان.

سحر التقنية وغوايتها

القرن العشرين هو أكثر القرون اهتماما بالتقنية، فقد تحولت غالبية المجتمعات نحو التقنية بدرجات مختلفة، فلم تعد التقنية تلك الأداة التي تزيد الإنسان قوة على قوته، بل أصبحت تعيد صياغة علاقة الإنسان بذاته والطبيعة، وهو ما أوجد الكثير من القلق، فكل تقنية لها تأثيرات ثقافية وتحمل بصمة صانعها، ومع ذلك التطور الهائل في التقنيات أصبح الإنسان المعاصر يقف في ذهول وقلق، فالتقنية ليست تحولات في الهامش لا نشعر بها، ولكنها تهيمن على الإنسان، وتتدخل لتعيد صياغته وتُشكل رؤيته لذاته وللكون، وهو ما خلق أوجاعا للإنسان، وفي المقابل فإن الهروب من التكنولوجيا، وشيطنتها ليس حلا مريحا أو ممكنا، فالتقنية واقع، بل إن الصديق الأفضل للإنسان المعاصر لم يعد الكلب، ولكن التقنية.

وقد انقسمت الآراء حيال التقنية إلى اتجاهين كبيرين:

الأول: بعض الكتاب الغربيين مثل الفيلسوف “بيتر سلوتردايك” يرى في كتابه “تدجين الكائن” أن الأنسنة مرتبطة بالتقنية، فالتقنية تمنح مساحات من الحرية للإنسان، خاصة قدرة التفلت من أسر الواقع والبيئة، فمن خلال التقنية تنمو حرية الإنسان وتترسخ، وهنا تصبح التقنية شرطا ضروريا للحرية، كما هي شرط للراحة.

الثاني: أما الفيلسوف الألماني “هايدغر” في مقال مهم بعنوان “سؤال التقنية” أكد أن التقنية تفرض تحديا على الإنسان المعاصر، فهي لم تعد جزءا من صنعه، ولكن جزء من مصيره، فهي تحدد الأهداف والغايات وكيفية تحقيقها، فهي تهدد بتحويل الإنسان إلى حيوان آلي، وهو ما يحتم تأسيس سيطرة عليها في إطار نسق أخلاقي يسمح للإنسان بالتخلص من هيمنتها.

ويرى “هايدغر” أن التقنية الحديثة هي المرحلة الأخيرة في تاريخ حجب الوجود ونسيانه، وتكون مقاومتها من خلال التحول إلى سؤال الوجود، أي التحول من نسيان الوجود إلى التفكير فيه، أما الفيلسوف “إريك فروم ” فيرى أن تزايد النزعة الآلية ستؤدي بالإنسان حتما إلى أن يصبح روبوت أو آلة، والإنسان الآلة لا يستطيع أن يحب أو يكره أو يثور أو يتمرد، بل يستطيع أن يقتل ويدمر بدم بارد، يقول فروم:”لقد كان الخطر الذي يداهمنا في الماضي أن نكون عبيدا، أما الخطر الذي سيواجهنا في المستقبل هو أن نصبح آلالات..والإنسان الآلة هو إنسان مشوه، سيدمر عالمه بنفسه، لأنه لا يستطيع أن يتحمل أي قدر من الملل الذي ينشأ من حياة عديمة المعنى”.

كذلك يبدي علماء اللاهوت في الغرب وعدد من علماء الدين في العالم قلقهم من توسع التقنية في مجال البيولوجيا، فتوسع التقنية البيولوجية[4] في مجال النبات والحيوان والإنسان، وسعيها لتخليق كائن حي، أوجد صداما مع أهل الأديان، واصبحت تلك التقنية ذات اهتمام ديني متصاعد، لأن تلك التقنية تهدد النوع البشري، وتهدد البشر بأنهم قد ينتمون إلى أكثر من نوع من الأحياء.

طغيان التقنية

مع توسع التقنية تزايد اعتماد الإنسان عليها وغرامه بها، فظهرت صيحات في عالم التكنولوجيا تبدو مزعجة، مثل: إنتاج دُمى كبديل عن  الزوجات، بل امتد بغي صانع التكنولوجيا إلى افتتاح بيوت للبغاء من الدمى، فأزمة الإنسان مع التقنية انتقلت من كونها وسيلة استخدام لتصبح وسيلة للهيمنة على الإنسان التي أنتجها.

كان الإنسان يحتاج إلى الآلة في موطن النقص، لكن المشكلة تكمن في أن الإنسان أصبح أسيرا لها، فحياة الناس استحوذت عليها الأدوات، وهو ما أوجد قلقا واضطربا دائما للإنسان الذي بات يعلق الأمل على كل تقنية جديدة، ومادامت الأدوات لا تنتهي فإن القلق لا ينتهي، ففقد الإنسان الطمأنينة وسُلب الهدوء والسكينة، لأن كل تقنية تحمل في أحشائها قفزة لتقنية أخرى، وأدى ذلك لحالة من عدم الاستقرار المتواصل والقلق الدائم.

وإذا كانت غاية العلم في الرؤية الغربية هي بسط الهيمنة على الطبيعة والتصرف فيها، فإن الغاية في الرؤية العلمية هي اكتشاف حقيقة الوجود والتواصل معها والتفاعل مع السنن الكونية، وعندما يفقد العلم غايته ويفقد الإنسان هويته باعتباره مخلوقا لربه، فإنه بدلا من أن يعيش في رحاب الطبيعة من أجل التقرب من الخالق سبحانه وتعالى، يتحول همه إلى تغيير الطبيعة من أجل إثبات هويته.

لقد غيرت الآلات والتقنيات من طبيعة العلاقات الاجتماعية، فتحول التواصل الإنساني والأسري وعلاقات الرحم إلى علاقات عابرة وغير طبيعة مقارنة بالعلاقة مع الآلة مثل “الموبايل” .

ومنذ عصر النهضة والإنسان الغربي منصرف إلى الاهتمام بالتكنولوجيا باعتبارها هدفا في الحياة، ومع تغير رؤية الإنسان للتكنولوجيا تغير تاريخ الإنسان، فلم يعد يبحث عن ذاته من خلال السير نحو المقدس، ولكن احتل العالم المادي الملموس الأصالة لديه بشكل مفرط، فأضحت التكنولوجيا غاية وليست وسيلة.

كانت وسائل الإنسان التقنية في السابق تتناسب مع ذاته وأفكاره وأصالته، لذا كانت قيمة الإنسان حاضرة وروحانياته متجلية، فلم يكن الإنسان يقف عاجزا أمام التقنيات التي يبتكرها، لكن مع المعدات الجبارة أصبح الإنسان ضئيلا في مواجهتها وأمامها، فغفل الإنسان عن ذاته واستغرقته الآلة بسحرها وقوتها وإنجازها، فالآلات العملاقة قطعت الصلة بين الإنسان والطبيعة، التي تعرضت لاستنزف وإخضاع قهري أضر بها وبالإنسان، فانفصلت الروح عن الطبيعة، وهنا جاءت التقنية بآلاتها لتخضع الطبيعة وتقهرها.

والحقيقة أن التقنية لم تغير الواقع المادي للإنسان فقط، ولكن غيرت كذلك واقعه الرمزي، وطريقه إدراكه وارتباطه بالعالم، بل إنها مهدت الطريق أمام شكل جديد من المادية خاصة في العلاقة مع المكان.

لا شك أن التقنية أعاقت فهم الإنسان لذاته وتفاهمه معها، وعندما تتفوق التقنية فإنها تتحكم في الجانب البشري، وهنا يتواري المفكر أمام المهندس في ظل تسيد التقنية، لتبقى المشكلة أن التقنية تخلق تاريخا بلا إنسان، حتى في عالم الطب عندما توسعت التقنية في حضورها لم يعد الطبيب يسمع المريض، وبات همه الأكبر متابعة تقييم التقنية للمريض من خلال الأشعة والتحاليل، فغاب البعد الإنساني أمام حضور كثافة الآلة .


[1] تُعرَف الثورة الصناعيّة الأولى بأنَّها تطوّر الصِّناعات اليدوية إلى الصِّناعة باستخدام الماكينة،وهي عبارة عن تحوّلاتٍ اقتصادية وعلمية شهدتها بريطانيا ثمَّ انتقلت إلى كامل أوروبا في نهاية القرن الثّامن عشر نتيجة اكتشاف الآلة البُخاريَّة

[2] كانت الثورة الصناعية الثانية، أو المعروفة أيضًا باسم الثورة التكنولوجية، هي مرحلة ضمن الثورة الصناعية الكبرى وتوافق النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، وقد بدأت مع طريقة بسمر لتصنيع الصلب في ستينيات القرن التاسع عشر وبلغت ذروتها في إنتاج كميات كبيرة والوصول إلى خط الإنتاج، كانت عملية بسمر أول عملية صناعية غير مكلفة لإنتاج كميات كبيرة من الحديد الصلب من الحديد المنصهر المصبوب. وقد أحدث مخترع هذه العملية، السير هنري بسمر، ثورة في صناعة الصلب من خلال تقليل تكلفته وزيادة نطاق وسرعة إنتاج هذه المادة الخام الحيوية وقلل من متطلبات عمال صناعة الصلب.

[3] عبارة وردت في كتاب “الشاي” للكاتب الياباني أوكاكورا كاكوزي المتوفى 1913م، والذي ربط فيه بين الشاي والجوانب الجمالية والثقافية للحياة اليابانية.

[4] التكنولوجيا البيولوجية هي: مجموعة من التقنيات يقوم من خلال البشر بتعديل الكائنات الحية أو استخدامها كوسائل) وقد بدأت في العشرينيات من القرن الماضي، وبدأ تطبيقها على النباتات فزادت إنتاجيتها، وتطورت الهندسة الوراثية، ومع التوصل إلى علم الجينات والمعلومات الوراثية داخل الخلية والمعروفة اختصارا بـDNA عام 1953 من قبل فرنسيس كريك، حيث فتح الباب أمام إمكانية احداث تغيرات جينية ووراثية، وفي العام 1990 بدأ مشروع الجينيوم البشري، ومع تطور ذلك العمل أوجد نوعا من الاعترضا من علماء الدين في الغرب.