لكل حركة هيئة وحال، ولكل متحرك محرك، وكل متحرك فحركته بحسب قوة محركه ومنقّله ودافعه وباعثه.كما أن لكل مقام مقال ، وكل مقال قد يكتسي بكسوة قائله وصائغه وناظمه ومُضمِّنه .فهناك القائل والمقول والمقول له والمقال عنه وفحوى ومقتضى المقال ، ثم حال القائل والمقول له والمنقول إليه… وهذه معاني وأبعاد قد تمتزج فيها اللغة بالمعنى ويتولد عنها حال من الفهم والوعي والاستيعاب والنهل وذوق الخطاب وسيماه بحسب تناسب المقال مع مصدر القول ومقصد العبارة والإشارة والوحي والإيماءة.    

1. بدء الوحي وخصوصية المفاجأة عند النبي صلى الله عليه وسلم

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن :”الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال: وأحيانا يتمثل لي  الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول” قالت عائشة رضي الله عنها:ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا[1].

   يصف أبو أروى الدوسي ما شاهده من حال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند نزول الوحي عليه فيقول:”رأيت الوحي ينزل على رسول الله، وإنه على راحلته، فترغو وتفتل يديها، حتى أظن أن ذراعها ينقصم، فربما بركت، وربما قامت موتدة يديها حتى يُسرَّى عنه من ثقل الوحي، وإنه ليتحدّر منه مثل الجمان”(3). ويصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما كان يعرفه من حال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند نزول الوحي، فيقول:”كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي يُسمَعُ عند وجهه دويٌّ كدويِّ النحل“.

و يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه:”كان نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أنزل عليه كُرب لذلك” أي أصابه الكرب. 

هذا المعنى والحال المواكب لنزول الوحي على رسول الله كما وصفه بنفسه هو الذي يفسر لنا ظاهرة الرجفة أو الرعدة التي حصلت له في أول لقائه مع جبريل عليه السلام عند نقطة البداية في إيصال الوحي إلى سويداء قلبه صلى الله عليه وسلم. بحيث لا ينبغي أن نفسرها بمعنى الخوف أو الرعب من صورة الملك أو من الحركة التي قام بها حينما ضمه إليه وغطه أو غته حتى بلغ منه الجهد ،وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أشجع الناس وأثبتهم وأرزنهم في كل المواقف ولم يكن ممن تفل فيهم المفاجأة اختلالا في الحركة أو اضطرابا في التعبير والشخصية لحد الغشي.فهذا مستبعد في نظرنا والله أعلم.

  فإذا كان الملك قد جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل آدمي عادي فإنه بطبيعة الحال، وكرد فعل بشري، سيكون من الضروري أن يدافع عن نفسه ويصد عنه هذا الذي يريد أن يصرعه أو يخنقه بهذا النوع من الضم والتضييق المضني.وهو ما كان قد حصل لسيدنا موسى عليه السلام حينما جاءه الملك يريد قبض روحه كما في رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:”أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام ،فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه،فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ،فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له :يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة .قال: أي رب ثم ماذا ؟.قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر”[2].  

فمن لم يدرك المغزى والبعد العقدي و المعرفي من الحديث فسيذهب إلى إنكاره أو تضعيفه بزعم أنه غير واقعي ويتنافى مع حقيقة الملائكة وصلة الأنبياء بهم غافلين عن السياق الذي ورد فيه وهو أن الملك قد جاء في صورة رجل تماما كما جاء جبريل عليه السلام في حديث أركان الإسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي حتى قد اعتبره الصحابة هو نفسه أو رجل من العرب لا فرق.

2. الحال المحمدي وكماله عند نزول الوحي و التلقين المعرفي

لكن حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد كان أكمل من سيدنا موسى عليه السلام، لتفاوت المقام ،ومن هنا فكل الروايات تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يبد أية مقاومة تذكر، وإنما كان في كامل الاطمئنان والتسليم ، ولم تظهر عليه أعراض العملية إلا بعد أن تم الأمر وأودع قلبه كلام الله تعالى إيداعا ملأ أركانه وأنار زواياه وجدرانه، فانتفض حينئذ وفاض وارتجف وارتعد ، شأنه في بداية الأمر كمسألة شق الصدر الأولى واستسلامه فيها للعملية الجراحية الروحية بكل هدوء وفطرة إلا أنه قد بقي على إثرها أثر المخيط ومخلفاتها بادية على وجهه الشريف وفي نسيج صدره المنيف .

وحيث إن القلب هو مركز الوحي كما قال تعالى :” وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) “[3]، فإن صدمة الدواء المباشر له وفي عمق بطينيه وأذينيه ستكون أشد قوة وإثارة لحركته في ضخ قوي للدماء وسرعة جريانها وتأثيرها على سائر الأعضاء ،وهذا ما يعرفه المختصون في علاج القلب وتقويته بما يلزم من مواد مناسبة لغذائه وتنبيهه.إذ لا علاقة للارتجاف أو الارتعاد بمسألة الخوف أو الدهشة ولكن قد يدخل الأمر في مدى استيعاب الحيز والمكان للمتمكن فيه والمسكن لساكنه ،حيث لا حيز هنا ولا مكان ولا تقريب أو معادلة لما يحتويه من بيان، خاصة وأن هذا الساكن قد جاء بصفتي الرحمة والحب المناسبتين  لحال ومقام النبي   صلى الله عليه وسلم الذي هو عين الرحمة المهداة والتي شملت العالمين دعوة وهداية، حيث نجد هذا التناسب قائما بين قوله تعالى :”وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين “[4]وقوله” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ” و” لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) “[5] والتي صاغهاs بقوله:”إنما أنا رحمة مهداة” [6]سبق وفصلنا القول عنها في المرقى الأول من فجر النور.

إذن فالمسألة هنا ،والحال معها، هي مباشرة القلب بالنور الإلهي في جلاله وجماله،ظاهره وباطنه ، شريعته وحقيقته:” لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ “[7].

فلم يكن الخوف إذن من جبريل أو أي كان، وإنما هو الانفعال الروحي الصرف بالحضرة الإلهية المقدسة على أعلى درجات القرب والشهود ،التي كان الملك جبريل عليه السلام هو الواسطة الظاهرية في توصيلها وترتيب مراحلها ،حتى إذا تم الإيداع  والتفريغ في القلب اهتزت أركانه وارتعدت بوادر  شغافه وجواهره، ونادى من أعماق أعماقه صاحب الحال والمقام بزملوني زملوني ودثروني دثروني ! حتى أنفرد وأختلي  في حالي الداخلي بخليلي وحبيبي من غير ملاحظة أو التفات إلى ما بخارجي !.

فلكأنه صلى الله عليه وسلم قد كان في مرحلة استكمال تمثل الدواء أو الغذاء والنور الذي اخترق فؤاده،حتى يتكيف معه ويصير فيما بعد مؤهلا لتلقيه في المستقبل من غير ارتعاش أو  ارتعاد.

وفي تصور  قريب ، ولكنه سلوكي أكثر منه بعد روحي بالمعنى الذي صبونا استشرافه أو إيصاله إلى الفهم ،يقول أبو سليمان الخطابي  فيما نقله عنه ابن كثير:”وإنما فعل ذلك ليبلو صبره ويحسن تأديبه ، فيرتاض لاحتمال  ما كلف به من أعباء النبوة،ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم ، وتأخذه الرحضاء أي : البهر والعرق .

وقال غيره :إنما فعل ذلك لأمور :منها أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع الشاق على النفوس كما قال تعالى:” إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ” ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمر وجهه ،ويغط كما يغط البكر من الإبل،ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد”[8].

فكان أول الأمر يبدو وكأنه مفاجأة ولكنها ليست كذلك وهو ما قد عبر عنه الرواة في وصف اللحظة وربطها بالآية التي سبق ذكرها:(وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك)[9] فقالوا :”حتى فجأه الحق وهو بغار حراء” فكان الرجاء لديه صلى الله عليه وسلم هو طلب الحقيقة فجاءه الجواب بالشريعة والحقيقة معا ،وكان السؤال والتحنث لغذاء القلب وتلبية حاجته في الفقر والعبودية لله تعالى حالا فجاءه الوصف والوصل مقالا ومقاما، هو بذاته سينتج الحال ويضيء الطريق استقبالا ومآلا .


[1]  رواه البخاري،كتاب بدء الوحي.

[2]  رواه البخاري ،كتاب الجنائز

[3] سورة الشعراء آية192- 195

[4] سورة القصص آية 86

[5] سورة التوبة آية 128

[6] رواه الديلمي والبيهقي في شعب الإيمان

[7] سورة الحشر آية 21

[8]  ابن كثير:السيرة النبوية ،ج1ص393

[9] سورة القصص آية 86