بعد استقرار حركة الفتوحات الإسلامية منذ منتصف القرن الثاني للهجرة كان المسلمون قد وصلوا إلى السند شرقا والأندلس غربا، وهذا الاتساع حدا برجال الدولة وخلفائها إلى التفكير في تنظيم إدارتها وضبط شئونها، وخلافا للشائع من اتجاه المسلمين نحو اقتباس النظم المختلفة من الحضارات المجاورة فإنا واجدون في هذه الحقبة المبكرة بعض المؤلفات التي وضعها الفقهاء الأوائل ويستشف منها مدى الجهد الذي بذلوه لتحويل الأحكام والقواعد الفقهية ذات الطابع الفردي إلى بنى وهياكل-إدارية وقانونية ومالية- قابلة للتطبيق المؤسسي، ومن هذه المؤلفات (السير الكبير) للإمام الشيباني الذي وضع الإطار القانوني لتعاملات الدولة مع غيرها و(كتاب الخراج) لأبي يوسف صاحب الإمام أبو حنيفة الذي صاغ أسس النظام المالي للدولة.

شذرات من سيرة أبو يوسف

هو يعقوب ابن إبراهيم الملقب بأبي يوسف القاضي، كان جده الثالث سعد بن حبتة الأنصاري أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد بالكوفة سنة ثلاث عشر ومائة لأسرة فقيرة، توفي والده صغيرا فدفعت به أمه إلى قصار* ليدربه، لكنه منذ حداثة سنه ولع بالاختلاف إلى مجالس رجال الفقه والحديث والأدب فكانت أمه تأتيه إلى حلقة الدرس فتأخذ بيده وتذهب به إلى القصار، ويروي الخطيب البغداوي أن شيخه أبو حنيفة لما رأى أمارات النجابة بادية عليه أمده ببعض المال ليتفرغ للعلم، وبهذه الكيفية استطاع أن يواصل دراسته على يد الأشياخ أبو اسحاق الشيباني، وسليمان التميمي ويحيى الأنصاري في الحديث، أبو حنيفة وابن أبي ليلى في الفقه، ولم تقتصر ثقافته على ذلك وإنما حفظ أيضا التفسير والمغازي وأيام العرب، ومن شيوخه فيها محمد ابن اسحاق.

ولا ريب أن أبي حنيفة كان له عظيم الأثر في نفسه، فقد لازمه طيلة حياته إلى أن توفي الأستاذ سنة خمسون ومائة، ثم حمل علمه ونشر مذهبه بعد مماته، حتى قال عمار ابن أبي مالك: ما كان في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف، لولا أبو يوسف ما ذكر أبو حنيفة ولا محمد ابن أبي ليلى، ولكنه هو الذي نشر قولهما وبث علمهما[1]. وقد منَّ الله عليه بعلم أستاذه إذ أقبلت عليه الدنيا زمن العباسيين، فولي القضاء من ثلاثة من خلفائهم وهم: المهدي والهادي والرشيد، وهو أول من تلقب بلقب قاضي القضاة في الإسلام وظل في منصبه حتى وفاته عام 182ه.

ترك أبو يوسف تراثا ضخما من المصنفات أحصاها ابن النديم في “الفهرست” لكن لم يبق منها إلا كتابان فقط، هما:

– كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وفيه نجد آراء الشافعي وأبو يوسف في المسائل المختلف فيها مع آراء كل من أبي حنيفة وابن أبي ليلى.

كتاب الخراج، وهو في الأصل رسالة كتبها للخليفة هارون الرشيد بينَّ فيها كيفية إدارة موارد الدولة المالية، وقد حققها ونشرها أحمد شاكر بالقاهرة.

بنية الكتاب ومنهجه وأهميته

يعد كتاب الخراج نوعا جديدا من التأليف لدى المسلمين، إذ يبين كيفية إدارة الدولة لمواردها المالية وبخاصة من الضرائب والرسوم التي يحق للدولة جبايتها، ويتطرق لبعض الأمور الإدارية المتعلقة بكيفية تعيين عمال الخراج وأصحاب البريد في الولايات، كما يتناول بعض الأمور القانونية مثل كيفية إنزال العقوبات بالعمال المرتشين، وكيفية التعامل مع أهل الشرك وما إلى ذلك من أمور كانت دولة الخلافة في أمس الحاجة إليها.

ويتكون الكتاب من مقدمة تسعة وثلاثين فصلا، أما المقدمة فهي رسالة موجهة من أبي يوسف إلى هارون الرشيد صدرها بالدعاء له ومبينا دواعي تأليفه وأنه بطلب من أمير المؤمنين، ثم أعقبها بالنصح في أن يقوم بأمر الرعية بالعدل مصورا لها مشاهد القيامة والبعث، وذكر أحاديث نبوية ترغب في العمل الصالح والقيام بالقسط، وأتبعها بنماذج من سيرة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب مما يجب أن يكون عليه الحاكم العادل، وأهم ما نلحظه من هذه الرسالة هي أن أبي يوسف لم يغلف لغته بذلك التواضع المصطنع الذي يتوج لغة من يكتبون إلى الرؤساء والسلاطين وإنما كانت لغة الأستاذ العالم الذي يخاطب من هو أدنى منه علما فيقول “وقد كتبت لك ما أمرت به وشرحته لك وبينته؛ فتفقه وتدبره وردد قراءته حتى تحفظه”[2].

وأما بنية الكتاب فمؤلفة من 39 فصلا تتعلق بسياسة الدولة المالية وكيفية إدارتها وسائر المسائل المتعلقة بها، فهو يتناول الغنائم وكيف تقسم وعما كان من رأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في ذلك، ويتحدث عن الفيء والخراج ما هما وكيفية تحصيلهما، وكيف يُعمل في أرض السواد، وفي أرض الموات، وكيف تجرى الأرزاق على العمال والولاة وما إلى ذلك.

وكان من منهجه أن يفتتح كل فصل بسؤال وجهه إليه الرشيد، ثم يأخذ في الإجابة عنه ذاكرا الأدلة التي استند إليها في الإجابة، وقد يذكر أقوال المذاهب المختلفة عارضا أدلتها مبديا ما يراه أولى بالاتباع أو مخيرا الرشيد في اتباع أي الرأيين.

وعلى الرغم من المآخذ التي يبديها بعض الكتاب المحدثين على ترتيب فصول الكتاب، وإمكانية تقديم بعضها على الأخرى إلا أن هذا لا يقلل من وجوه الأهمية في الكتاب[3]، فهو يعطينا صورة عن الضرائب التي كانت تجبى منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصولا إلى الخلافة العباسية وكيف كان أهل الذمة يُعاملون، وللكتاب أهمية أخرى تلك هي ما حواه من الكتب والرسائل التي تبودلت بين الولاة والعمال وهي مادة تاريخية أصيلة للمؤرخين، علاوة على كونه معين لا ينضب من الأحاديث والآثار النبوية المرتبطة بالمسائل المالية.

النظام الضريبي كما صاغه أبو يوسف

وللكتاب أهمية اقتصادية لا يمكن التقليل منها؛ فقد استنبط مؤلفه القواعد الأولية للنظام الضريبي الواجب اتباعها في الإسلام، وتتلخص في الآتي:

أولا: تكون نسبة الخراج وفق طاقة الدافعين، وأن يتيسر أداءه من حاصلات أراضيهم، فالنسب المخفضة تكفل الرخاء والنمو والعمران.

ثانيا: تُحدد نسب الضرائب من قبل الحكومة المركزية -الخلافة- وليس للولاة والجباة الحق في إحداث أي تغيير فيها زيادة أو نقصانا.

ثالثا: تجبى الضرائب بالرفق واللين، وأن تتم المقاسمة بعد استواء الزرع مستعجلا لكي لا يلحق الضرر بالغلات في القرى فلا يخسر المزارعون ولا يتأثر نشاطهم الزراعي.

رابعا: يضمن الخليفة بنفسه جباية الخراج باللين، وأن يتخذ من الإجراءات ما يكفل ذلك.

خامسا: يتولى جباية الخراج قوم يوثق بعدالتهم وأمانتهم وعلى دراية بالشريعة وأحكامها، وتكافئهم الدولة برواتب مجزية، ويوضعون تحت الرقابة الصارمة[4].

وبالجملة فإن هذه السياسة التي جمعت بين المبادئ الدينية والفضائل الخلقية والإجراءات العملية قصدت تحقيق العدل ورفع الظلم وعدم إثقال كاهل الرعية، وحول هذا المعنى يقول أبو يوسف “إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم، مع ما في ذلك من الأجر، يزيد به الخراج وتكثر به عمارة البلاد، والبركة مع العدل تكون وهي تُفقد مع الجور، والخراج المأخوذ مع الجور تنقص به البلاد وتخرب”.


* هو الشخص المسئول عن إعداد القماش بعد نسجه.

[1] بدوي أحمد أحمد، أبو يوسف وكتاب الخراج، القاهرة: صحيفة دار العلوم، 1948، س14، ع2، ص 57-58.

[2] أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، 1979،ص 6.

[3] الهادي درقاش، نظام الخراج من خلال كتاب الخراج لأبي يوسف، بغداد: مجلة المورد، 1981، مج 10 ع 3-4، ص146-147.

[4] محمد نجاة الله صديقي، الفكر الاقتصادي لأبي يوسف، الرياض: مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، 1985، ص91.