انتشرت ظاهرة طلب الزوجة الخلع أو الطلاق عن طريق القانون، رغبة في مال زوجها، ولو اقتضى الأمر منع زوجها حقوقه في النكاح، وتدعي زورا أنه ظلمها أو أضر بها، وتحقق ذلك عن طريق الاستعانة بشهود الزور من أجل الحصول على الطلاق، فتأخذ حقوقا ليست من حقها، وتستغل القوانين الوضعية، وتدعي في جميع الأحوال أنها مظلومة أو متعرضة للامتهان وسوء المعاملة، وتطلب من القضاء الإنصاف بالخلع أو الطلاق للضرر عن طريق شهادة الزور، وهي في حقيقة الأمر غير محقة، ودعواها باطلة، وإنما عمدت إلى هذه الصنيعة من أجل التخلص من الزواج بغير مقابل مالي، أو استحلال مال الزوج بوجه يوافق عليه القانون.

وللوقوف على حيثية المسألة بوضوح كامل لا بد أن نعرف ما هو الخلع أولا ، وكيف يتسرب إليه شهادة الزور، وما يترتب على هذه الحالة من الأحكام الفقهية.

تعريف الخلع في الشريعة الإسلامية

يقصد بالخلع نوع الفراق بين الزوجين إذا كان بعوض أي مقابل شيء سواء كان عينا أو إسقاط حق في الذمة، بلفظ طلاق أو خلع. كقول الرجل للمرأة: طلقتك أو خالعتك على كذا، فتقبل.

والأصل في مشروعية الخلع الدليل من الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿‌وَلَا ‌يَحِلُّ ‌لَكُمْ ‌أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229].

وأما السنة: فحديث ابن عباس -رضي الله عنه-: “أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام -وفي رواية: ولكني لا أطيقه- فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أتردين عليه حديقته؟ ” قالت: نعم. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أقبل الحديقة وطلقها تطليقة” رواه البخاري.

قال الزحيلي: فهي لا تريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه، وإنما كرهت كفران العشير، والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، فأمرها النبي صلّى الله عليه وسلم أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب برد بستانه الذي أمهرها إياه، وهو أول خلع وقع في الإسلام، وفيه معنى المعاوضة[1].

وأما الإجماع فهو إجماع الصحابة والأمة على مشروعيته وجوازه، ونقل الإجماع على جوازه ابن حزم وغيره[2] لحاجة الناس إليه بوقوع الشقاق والنزاع وعدم الوفاق بين الزوجين.

وقد رجح جواز الخلع جمهور الفقهاء وذلك أن المرأة قد تبغض زوجها وتكره العيش معه لأسباب جسدية خَلْقية، أو خلُقية أو دينية، أو صحية لكبر أو ضعف أو نحو ذلك، وتخشى ألا تؤدي حق الله في طاعته، فشرع لها الإسلام في موازاة الطلاق الخاص بالرجل طريقاً للخلاص من الزوجية، لدفع الحرج عنها ورفع الضرر عنها، ببذل شيء من المال تفتدي به نفسها وتتخلص من الزواج، وتعوض الزوج ما أنفقه في سبيل الزواج بها[3].

ما هي حالات الخلع وحكمها الشرعي؟

تختلف أحكام الخلع تبعا للحالات التي صاحبته، فمن الخلع ما هو جائز وهو النوع الذي بيناه أعلاه إن كان هناك إضرار، ومنه ما يكون محرما، وكل ذلك حسب التفاصيل الآتية:
‌‌حالة الجواز:
يباح للمرأة أن تطلب الخلع من زوجها في حالة ما إذا كرهت البقاء معه لسبب ما كشقاق بينهما أو لبغضها إياه أو سوء معاشرته وخافت ألا تؤدي حقه ولا تقيم حدود الله في طاعته، ويسن للزوج إجابتها في هذه الحال؛ لقوله تعالى: ﴿‌فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229]، ولحديث ابن عباس في قصة امرأة ثابت بن قيس المتقدم. ولا تصل إلى الفرقة إلا ببذل العوض فأبيح لها ذلك.

ويستثنى من هذه الحالة عند الحنابلة ما لو كان الزوج له إليها ميل ومحبة فحينئذ يستحب صبرها وعدم افتدائها، قال أحمد: ينبغي لها أن تصبر.

ويلحق بهذه الحالة إذا ظهر النشوز من جهة الزوج فإن الحنفية يكرهون على الزوج أخذ العوض منها وقالوا: لأنه أوحشها بالفراق فلا يزيد إيحاشها بأخذ المال[4].

‌‌حالة التحريم:

يكون الخلع محرمًا في صور ثلاث:

الأولى: إذا كانت حالهما مستقيمة وليس هناك ضرر يدعو إليه؛ لحديث ثوبان عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة”[5]، وحديثه أيضًا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “المختلعات هن المنافقات[6]، وفي رواية عن عقبة بن عامر قال؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات”. ولأنه إضرار بها وبزوجها وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة.

ويرى الشافعية جوازه في هذه الحالة إذا وجد الرضا من الطرفين لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}، ولأنه رفع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فجاز من غير ضرر كالإقالة في البيع.

فإذا خالع الزوج زوجته في هذه الحال صح في قول أكثر أهل العلم.

الثانية: إذا عضل الزوج زوجته ليحملها على طلبه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، فإن خالعها في هذه الحال بلفظ الطلاق أو نيته بعوض فقد نص الحنابلة والشافعية على أن الطلاق يقع عليها رجعيا إن كان دون ثلاث، ولا يستحق العوض؛ لأنه عقد معاوضة أكرهت عليه بغير حق فلم يستحق فيه العوض للنهي عنه كالبيع والنهي يقتضي الفساد

الثالثة: ويحرم الخلع أيضا إذا كان حيلة على الأصح، كأن يكون حيلة على إسقاط يمين الطلاق أي الذي يقصد منه إبطال الطلاق المعلق، ولا يصح ولا يقع؛ لأن الحيل خداع لا تحل ما حرم الله ويترتب عليه أنه إذا فعل المحلوف عليه بعده حنث في يمينه لعدم صحة الخلع[7].

حكم طلب الخلع بدون الإضرار ولو بشهادة زور؟

إن شهادة الزور من كبائر الذنوب التي توجب غضب الله سبحانه وسخطه، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ )، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)، وكان متكئاً فجلس فقال : (ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور) ، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت”[8].
لذلك يحرم على المسلم أن يتصرف بالزور أو يقول أو يعمل به بغير وجه حق، أو يستأجر شهودا يدلون بالزور على أمر لم يقع، حتى ولو كان من أجل التوصل إلى إثبات حق، يقول ابن تيمية في “الفتاوى الكبرى” (6 / 119): ” ….. لِأَنَّ الْغُلُولَ وَالْخِيَانَةَ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ ، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ ” انتهى.

ولا يجوز للحاكم العمل بشهادة زور إذا تبين له ذلك، ولا الحكم بها حتى يتثبت، ولا تقبل شهادة زور للحديث السابق، ولأن فيها رفع العدل، وتحقيق الجور.

وإذا طلبت الزوجة الخلع من غير إضرار منه، وبدون دواعيه كبغضها لزوجها، وكراهة البقاء معها، فإن الخلع في هذه الحالة محرم، وتشتد الحرمة إذا أدلت بشهود زور، فكان على القاضي أن يستبين من أمر الشهود قبل البت في الحكم، ولا يبني الحكم على الشهادة فقط، بل يطلب البينة بالضرر، قال أبو زيد من المالكية وجماعة من أصحابه:

«وإذا أقامت بينة أنه كان يظهر بغضها لم ينفعها إلا البينة بالضرر، وقد يبغضها ولا يظلمها»[9].

ويشهد على هذا ما جاء في “نقض أحوال الطعن” من القانون المصري، ما نصه: والشهادة على وقائع الضرر يتعين إلا تكون سماعية فعلی الشاهد أن يكون قد عاين المشهود عليه بالعين أو السماع بنفسه ذلك أن المقرر أن الشهادة السماعية لا تصلح لثبوت أو نفي الضرر المبيح للتطليق. كما لا يجوز إثبات مضارة الزوج بشهادة سماعية فإنه لا يصح أيضا نفيها بشهادة سماعية[10]. 

هل يكون الخلع صحيحا ولو بشهادة الزور؟

ومن الأمور التي تترتب على هذه القضية هل القاضي ينفذ الخلع ويقع صحيحا إذا ثبت أنها طلبت الخلع أو التطليق بشهادة الزور. وهذا السؤال ينطبق على المسائل المماثلة من العقود والفسوخ سواء في النكاح أو غيره.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة بين من يقبل بنفاذ الحكم ظاهرا وباطنا، ومن يقبل نفاذه ظاهرا فقط.
فإذا حكم القاضي بناء على شهادة الزور بالخلع أو التطليق فإن جمهور الفقهاء خلافا لأبي حنيفة[11] يرون أن هذا الحكم بشهادة الزور ينفذ ظاهرا لا باطنا؛ لأن شهادة الزور حجة ظاهرا لا باطنا فينفذ القضاء كذلك لأن القضاء ينفذ بقدر الحجة، ولا يزيل شيئا عن صفته الشرعية، سواء العقود من النكاح وغيره والفسوخ، فلا يحل للمقضي له بشهادة الزور ما حكم له به من مال أو بضع أو غيرهما، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار)[12].

وإلى هذا القول ذهب صاحبا أبي حنيفة، أبو يوسف القاضي ومحمد الشيباني.

وذهب أبو حنيفة وهو رواية عند الإمام أحمد: ينفذ قضاء بشهادة الزور ظاهرا وباطنا في العقود والفسوخ حيث كان المحل قابلا، والقاضي غير عالم بزورهم، لقول علي – رضي الله عنه – لامرأة أقام عليها رجل بينة على أنه تزوجها، فأنكرت فقضى له علي – رضي الله عنه – فقالت له: لم تزوجني؟ أما وقد قضيت علي فجدد نكاحي، فقال: لا أجدد نكاحك، الشاهدان زوجاك؛ فلو لم ينعقد النكاح بينهما باطنا بالقضاء لما امتنع من تجديد العقد عند طلبها.

ويظهر من خلال القولين أن الراجح عدم نفاذ الحكم ديانة، فإن مذهب الجمهور اعتمد على الدليل الظاهر، وهو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إبراء ذمة القاضي من الإثم إذا حكم بما ظهر له، أما المقضي له وهو الزوجة التي تطلب الطلاق بشهادة الزور فحكم القاضي لا ينقض العقد ولا يحل لها الفراق.

وأما مذهب أبي حنيفة فإنه قيد جواز نفوذ قضاء الحاكم ديانة بظهور البينة وكون القاضي غير عالم بحقيقة التزوير في الشهادة، ولكن في حال وجدت البينة أو علم القاضي فإن الحكم يرجع إلى أصله وهو عدم نفاذه على الزوجين.  

ما تترتب على الخلع عن طريق شهادة الزور

وإذا تبين أن حكم القاضي بالخلع أو التطليق بالإضرار للزوجة بناء على شهادة الزور، علم بها القاضي أو لا يعلم، لا يحل عقد الزواج في الواقع فإنه يترتب على ذلك أمور:

1 – أن عقد الزواج بين الطرفين باق على ما هو عليه لا يفسخه حكم القاضي

2 – أن الخلع فاسد وحكمه في هذه الحالة حرام، وكل طرف توطأ مع الزوجة في تزوير الشهادة آثم.

3 – أن الحقوق التي حصلت عليها الزوجة بناء على الخلع الفاسد تردها إلى زوجها.

4 – لا يحل للمرأة بعد الخلع بالتزوير الزواج من رجل آخر، لأن عقد الزواج شرعا صحيح، فحكم القاضي لا يحل لها ما كان محرما عليها[13].    


[1]  «الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي» (9/ 7009)

[2]  مراتب الإجماع لابن حزم (ص: 74)، المحلى (10/ 235)، التمهيد لابن عبد البر (23/ 375)، بداية المجتهد (2/ 50)، روضة الطالبين (7/ 374)، مغني المحتاج (3/ 262)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 174)

[3]  «الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي» (9/ 7009)

[4]  تبيين الحقائق 2 / 269 – ط بولاق، البحر الرائق 4 / 83 – ط الأولى العلمية، فتح القدير 3 / 203 – 204 – ط الأميرية

[5]  أخرجه أبو داود (2226)، والترمذي (1187)، وقال الترمذي: حسن، وصححه الألباني.

[6]  أخرجه الترمذي (1186)، وقال الترمذي: حسن، وأخرجه أبو داود رقم (2226) في الطلاق، باب في الخلع، وسنده قوي وصححه الألباني.

[7]  كشاف القناع (5/231).

[8]  رواه البخاري ( 5631 ) ، ومسلم ( 87 ) .

[9]  «النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات» (5/ 255)

[10]  نقض أحوال الطعن رقم 4 لسنة 55 ق – جلسة 1986/3/25 والطعن رقم 52 لسنة 52 ق – جلسة 1986/2/25 – س 37 . ينظر موقع مركز الراية للدراسات القانونية https://alrayacls.com/researches

[11]  «روضة الطالبين وعمدة المفتين» (11/ 152)، ابن عابدين 4 / 333، حاشية الدسوقي (4/201)؛ والمغني (المغني لابن قدامة (14/37) – تحقيق عبد المحسن التركي، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض – المملكة العربية السعودية الطبعة: الثالثة، ١٤١٧ هـ – ١٩٩٧ م

[12]  صحيح البخاري ومسلم.

[13]  المغني لابن قدامة (14/38).